الدينُ و الديمقراطيةُ لا يتعارضان و لكنهما منظومتان مختلفتانِ .. العلاقةُ ما بين الدينِ و الدولةِ و الديمقراطيةِ مشكلةٌ تاريخيةٌ؛ فقد سبقتْنا أوروبا في ذلك حيثُ شَغَـلتْ هذه الاشكالاتُ المفكرين و الفلاسفةَ الاروبيين منذُ عصورٍ إلَّا أنهُ تم حسمها نسبيًّا في بدايةِ عصرِ النهضةِ؛ بوسائل تفاوتتْ ما بين العنفِ و الحروبِ و الجدالِ الفكري، في موقفِ الكنيسةِ والدولةِ من الديمقراطية التي تقوم على المواطنةِ و الشراكةِ السياسيةِ .
و للجميعِ الفضلُ في هذه التوافقاتِ، و النتيجةُ استقرارِ العالمِ الاوروبي على ثوابتَ ومرجعياتٍ تمثلُ اليومَ قاسمًا مشتركًا بين كلِّ المجتمعاتِ الغربيةِ، و هي العلمانيةُ والليبراليةُ والديمقراطيةُ أو الدولةُ المدنيةُ، مع بعضِ الاستثناءاتِ أو الاختلافاتِ هنا وهناك .
فعلاقةُ الدينِ بالسياسيةِ منفصلةٌ؛ و حريةُ العقيدةِ لا تقفُ عايقًا في ممارسةِ السياسةِ و عملِ الدولةِ من جانبٍ آخرَ حسبْ مقولةِ "ما للهِ للهِ و ما لقيصرَ لقيصرَ"،
دونَ تجاهلِ هذَيْـنِ العاملينِ فإن اعتباراتٍ أخرى ساعدتْ على هذا الأمرِ منها النهضةُ الفكريةُ و الصناعيةُ و العلميةُ، و تبلورُ طبقةِ المثقفين التنويريين، و وعي ونضجِ المجتمع الغربي الذي عانى كثيرًا من هيمنةِ الكنيسةِ و تغييبِ العقلِ، و الفكرِ و سيطرةِ الكنيسةِ على المجالينِ الديني و الدنيوي و شكَّلَ انتكاسةً حضاريةً بالنسبةِ إلى ما كانتْ عليه.
هذا الوعيُّ كرَّسَ عند الجميعِ الثقةَ بالنفسِ و الثقةَ بالشعبِ و قدرةُ هذا الأخير على حلِّ مَشاكلهِ الدنيويةِ دون حاجةٍ للاستنجادِ برجالِ الدين في كل صغيرةٍ و كبيرةٍ في أمورهم الدنيويةِ، وجعلتهُ على ثِقةٍ بأن أمورَ الدولةِ و نظامَ الحكمِ و مستلزماتهِ الاقتصادية والاجتماعية ذات طبيعةٍ دنيويةٍ تعودُ للناسِ و ليستْ سماويةً (الاهيةً) ، و إن ما فيهِ مصلحة الشعبِ و يرضى عنه الشعبُ سرضَى عنه الربُّ (الله) ما دامَ يريدُ خيرًا لعبادهِ.
و قبلَ الاستطرادِ يجبُ التوضيحُ بأن علمانيةَ الغربِ أعادتِ النظرَ ليسَ في الدينِ بحدِّ ذاتهِ و لكنْ في و ضعِ الدينِ في المجتمعِ و وظيفتهِ و علاقته بالمجالات الحياتية الأخرى، كما أن الديمقراطيةَ أعادتِ للمواطنِ الغربي إنسانيتَه، و أسستِ المواطنةَ المتساويةَ التي حدَّتْ من الطائفيةِ و المذهبيةِ و الإثنيةِ و الطبقيةِ .
وحولتِ العلاقةَ بين الحاكمِ و المحكومِ من علاقةِ راعٍ ورعيةٍ إلى المواطَنة المتساويةِ التي ترتبُ حقوقًا و واجباتٍ على الحاكم و المواطنِ على حَدٍ سواءٍ، كما أنها أعلتْ من شأنِ إرادة الأمةِ وحقها في الثورةِ وفي تغييرِ حكامِها و في حريةِِ الكلمةِ و الصحافةِ، و جرَّدتْ هؤلاءِ في حقِّ الاحتكارِ الديني المقدسِ أو التحدثِ باسم الإله، أي أنها أسقطتِ الشرعيةَ الدينيةَ عن الحكامِ.
أما في التجربةِ التاريخيةِ الإسلاميةِ لعلاقةِ الإسلامِ بالدولةِ و علاقتهِ بالديمقراطية أنجحُ تجربةً كانتْ في عهد الخلافةِ الإسلامية في الأندلس أيام حكم الخليفة (عبدالرحمن الداخل) فكانَ الحكمُ ديمقراطيًّا شاركَ في السلطةِ المسلمُ و النصرانيُّ و اليهودُ ومُوْرِسَتْ حُرِّيةُ الطقوسِ و الدياناتِ و هذا ما أثبتهُ التاريخُ و المُؤرِّخونَ الاوروبييونَ وخاصةً الأسبان، بعد دراسةٍ تاريخةٍ، وَ الخليفةُ الأوحدُ الذي عملتْ له أسبانيا تمثالًا اعترافًا منهم بعدالةِ حكمهِ.
أما في التاريخِ الحديثِ فقدْ تباينتِ المواقفُ و الرؤى وما زالتْ، و نظمتْ ندواتٍ ومؤتمراتٍ علميةٍ شاركَ فيها مثقفون وعلماءُ من كلِّ المشاربِ السياسيةِ و الفكريةِ و قدْ تعاظمَ هذا النقاشُ في ظلِّ فوضى الربيعِ العربي وخصوصًا حول الدولةِ المدنيةِ.
إلى ما قبل صعودِ الإسلاموية السياسية كان الرأيُ الأكثرُ رجحانًا؛ عدمُ وجودُ تعارضٍ بين الإسلام و بناءِ الدولة الحديثة وبينهُ وبين الديمقراطيةِ كنظامٍ و آليةٍ لتدبيرِ حياةِ الناس داخل الدولة، و إمكانيةِ ولوجِ عالمِ الديمقراطيةِ دون الاصطدامِ أو التعارضِ مع الدين الإسلامي حيث لكلٍّ منهما مجالهُ وطبيعتهُ المختلفةُ عن الآخرِ، و كان مفكرو عصرَ النهضةِ العربيةِ نهايةَ القرنِ التاسعِ عشرَ و بدايةَ القرنِ العشرينَ الأكثرَ نضجًا في مقاربةِ هذه الإشكالاتِ .
و صعودِ الإسلاموية السياسية مثل تنظيمِ القاعدة و طالبان ثم تنظيمِ الدولةِ (داعش) وما مارساه عمليًّا في المناطقِ التي سيطروا عليها، وانفجارُ الصراعاتِ الطائفيةِ و المذهبيةِ و المناطقيةِ كشفَ أن الأمورَ لم تُحسمْ بعدَ و أن كلَّ ما قالهُ مفكرو وممثلو التياراتِ الإسلاميةِ السابقون كانت مجردُ وجهاتِ نظرٍ أو اجتهاداتٍ لا تُلزمُ إلا أصحابَها.
بالنسبةِ لإشكاليةِ نظامِ الحكمِ و علاقةِ الإسلامِ بالديمقراطيةِ، هناك وجهةُ نظرٍ إسلاموية ترى أن الديمقراطيةَ نظامٌ كافرٌ من منطلقِ أنها تموقِعُ الدستورَ الوضعي كمرجعيةٍ للأمة وتقولُ بأن الحكمَ للشعبِ، وهذا يتعارضُ مع مفهومِ الحاكميةِ في الإسلامِ من وجهةِ نظرهم .
كما أن علاقةَ الديمقراطيةِ بالتجربةِ السياسيةِ والحضاريةِ الغربيةِ و بالعلمانية كان وراءَ الحذرِ من الديمقراطية التي تعاملُ معها ونظرتْ إليها الكثيرَ من الجماعاتِ الدينيةِ و كأنها رديفٌ للعلمانيةِ و العلمانيةُ رديفٌ للإلحادِ!
وهذه الجماعاتُ التي تتبنى الفكرَ الوهابي وتنظيمَ القاعدةِ وتنظيمَ داعش و الحوثييةِ وغيرها بالإضافةِ إلى بعض الأنظمةِ.
و هناك وجهةُ نظرٍ أخرى لا ترفضُ الديمقراطيةَ من حيث المبدأِ و لكنها ترى أن الديمقراطيةَ موجودةٌ في الإسلامِ من خلال مبدأِ الشورى و وجهةِ النظرِ هذه ترى أنه يمكنُ ايجادَ مساحةٍ للالتقاء والتعايشِ بينهما، وهذا الرأي تتبناهُ بعضُ الدول كالمغرب وتركيا وغيرها، وجماعاتٍ وشخصياتٍ ك(حسن الترابي) في السودان و(الريسوني) في المغرب وحزبِ النهضةِ في تونس وجماعةِ الإخوانِ المسلمين مؤخرًا بالرغم أنهم فشلوا فشلًا ذريعًا كما حصلَ في مصرَ.
و بالرغمِ من كلِّ ما جرى في السنواتِ الأخيرةِ فإنهُ لا يمكنُ استبعادَ الديمقراطيةِ أو الإسلامِ عن إعادةِ بناءِ الدولة مُجددًا.
إن الديمقراطيةَ و الشراكةَ السياسيةَ شرطٌ ضروريٌّ لإعادةِ بناءِ الدولة في كل المراحلِ النهضاويةِ، فهما ضمانُ الحياةِ الكريمةِ والحريةِ بكل أشكالِها وضمانُ احترام المعتقداتِ الدينية للناس و ضمانُ ثقافةٍ وهويةٍ و دينِ الأغلبية، وليس حكمُ الفردِ أو الأقليةِ كما هو مع العلويين في سوريا و السنةِ في البحرين والشيعةِ في إيران و غيرها التي تنصِّبُ نفسَها ناطقةً باسمِ الإسلامِ والمسلمين دون تفويضٍ من أحدٍ، أو باسمِ طائفةٍ أو إثنيةٍ أو أسرة محددةٍ.
لكن هذا لا يعني أن ننسخَ النموذجَ الغربي في الديمقراطيةِ والعلمانيةِ، بل المطلوبَ تبيئتهما لتتوافقا مع ثقافتِنا وخصوصيتنا، كما فعلتْ شعوبٌ أخرى مثل اليابان وبعضِ الدولِ الإفريقيةِ بل ودولٍ إسلاميةٍ أيضًا كماليزيا، إلى حد ما، فالديمقراطيةُ لا تعني بالضرورةِ التغريبُ بل تحديثٌ و حداثةٌ للنظامِ السياسي، و العلمانيةِ لا تعني محاربةُ الدينِ بل تنظيمُ العلاقةِ بينهُ وبين الدولةِ من خلال احترامِ و تنظيمِ المجالات كُلٍّ فيما يخصُهُ.
* عضو الهيئة الدائمة التأسيسية لتيار نهضة اليمن