رواية تمجد الأنوثة... وتقتل المؤلف
السبت 12 مايو 2018 الساعة 22:55
لندن: عدنان حسين أحمد

صدرت عن «دار مِداد» بدبي رواية «أنثى غجرية» للكاتب والروائي العراقي رسول محمد رسول، وهي الرواية الثانية في رصيده السردي بعد سلسلة من الكتب الفكرية والنقدية التي أصدرها منذ أوائل التسعينات من القرن الماضي وحتى الآن. وبما أن رسول مشتغل في الحقل الفلسفي، فلا غرابة في أن يتسرب بعض المصطلحات الفكرية إلى نصه السردي مثل النسوية، والأنثوية، والوطن البيولوجي... وما إلى ذلك من أفكار فلسفية مركبّة نتقبّلها لأنها ترتدي حُلّة أدبية قشيبة.
تُعيدنا هذه الرواية إلى إشكالية «موت المؤلف» التي أثارها الناقد الفرنسي رولان بارت عام 1968 حين نفى أن يكون النص الأدبي صادراً عن المؤلف وإنما هو إعادة إنتاج لنصوص سابقة، ويكفي أن نقتبس جزءاً من المدخل الاستهلالي لـ«أسماء يوسُف»؛ الشخصية الرئيسية في الرواية، وهي تقول بثقة كبيرة: «أيها الراوي: توقّف عن الكلام، قل للروائيين أن يرحلوا بعيداً عني؛ ليرحلوا حتى عن غيري، قل لهم، وقبل إشهار موتهم، أن يبحثوا عن حرفة أخرى.. قل لهم بأنّ (أسماء يوسُف) أصبحت روايتها». وعلى الرغم من اختلافنا الجذري مع هذه الفكرة القديمة، فإننا نجد أنفسنا مضطرين للتعاطي معها ضمن سياق اللعبة السردية للمبنى الروائي الذي انحسر فيه دور الراوي العليم وأسند مهمته إلى «أسماء يوسُف»، بطلة النص بلا منازع، كما سمح، في الوقت ذاته، لشخصية روائي كويتي أهدى روايته الجديدة إليها لأن يتقصى أحداث الرواية التي بدأت تكتبها «أسماء» بوصفها بطلة النص، وراويته، وثيمته التي تتمحور على سيرتها الذاتية المُفجعة بعد أن فقدت الأهل والأصدقاء لتجد نفسها في أوطان بديلة مثل الأردن والمغرب والإمارات قبل أن تحزم حقائبها لتستقر في باريس؛ حلمها الوردي الذي كان يغازلها منذ سنوات دراستها الجامعية.
تتأرجح أحداث الرواية بين زمنين، هما المضارع المستمر، والماضي المُستعاد ذهنياً، وثمة فسحة بسيطة للتأمل المستقبلي الذي تتسلل إليه عبر أحلام اليقظة الخاطفة. لا يتأخر الراوي العليم في إحاطتنا علما بأن «أسماء» مُعاقة، وأن ذراعها اليمنى مشلولة الحركة، ولهذا فهي تراجع عيادة الأعصاب عسى أن تتغلب على هذه الإعاقة الوِلادية. لم تكن «أسماء» مجرد مُترجِمة من اللغة الفرنسية إلى العربية، وإنما قارئة للأدب بشكل عام، وقد حفّزتها قراءة كتب رولان بارت والشاعرة المغربية فاتحة مُرشيد على الكتابة شرط «ابتكار الذكريات» بطريقتها الخاصة، فالمرأة بحسب بارت «هي التي تعطي شكلاً للغياب، وهي التي تُتقن روايته» خصوصاً عندما تكتب عن وجودها بوصفها شخصية من ذوي الاحتياجات الخاصة، لكنها تقول: «سأتحداك يا عجزي، أنا ابنة التضحيات، ابنة المعجزات، سأفعل ذلك رغم ضعفي». يشتمل المتن السردي للرواية على لقاءين؛ الأول لقناة تلفزيونية أوروبية حديثة تُعنى بالنسوية والمرأة في حوض المتوسط، والثاني مع إحدى المجلات.
تكشف المقابلة التلفزيونية التي أجراها الصحافي الفرنسي «روني ألان» عن أبرز محاور السيرة الذاتية لـ«أسماء يوسف» منذ ولادتها وحتى الوقت الراهن الذي تتهيأ فيه للسفر إلى باريس والعمل بصفة باحثة لمصلحة القناة التلفزيونية التي أجرت معها الحوار وأُعجبت به أيّما إعجاب، وكان ذريعة تقنية لاسترجاع الماضي منذ ولادتها التي اقترنت بموت الأم البيولوجية نعيمة شيمعون نتيجة التلوّث الشامل الذي اجتاح مدينة البصرة إثر اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية وشيوع الولادات المشوّهة جسمياً وعقلياً.
وفي السياق ذاته، نتعرف على مُرضعتها وأمها الفيزيائية «طاهرة» التي علّمتها كيف تقف على قدمين ناعمتين وتمسك الأشياء بأصابع كفها اليسرى، أما «ميري شيمعون» فهي الأم الثقافية التي كانت تحثها على الاندماج في المجتمع والتفاعل معه بوصفها إنسانة غير مُعاقة، لكنها ستفقد الأم الثانية، وتُفجَع بموت أبيها الغامض الذي اقتيد لمعالجة جرحى الجيش العراقي المهزوم الذي انسحب من الكويت عام 1991 ودفنوه في مكان مجهول على مقربة من الحدود الكويتية. وحينما تموت أمها الثقافية تلوذ بعائلة صديقتها الجامعية زينب التي لم تتخلَ عنها حتى في أثناء سفرها إلى الأردن حيث رافقها الحاج مُراد إلى عمّان وعاد بعد أسبوع ليتركها منهمكة في السفر إلى المغرب؛ إذ تعرّفت على «آسيا» التي تعمل في السفارة المغربية في عمّان وأعطتها عنوان شقيقتها «جميلة» التي تعمل في ملهى ليلي وسوف تبذل هذه الأخيرة قصارى جهدها لتجد لها مُهرِّباً يوصلها إلى الشواطئ الإسبانية، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن؛ حيث يغتصبها المهرِّب في عرض البحر، لكنها تدفعه من الزورق وتضربه بالمجداف 3 ضربات قوية على رأسه فيغوص في القاع بينما تأخذها الأمواج المتلاطمة إلى الشاطئ، حيث تحرق الزورق وتعود إلى صديقها «جميلة» التي تعرِّفها إلى «منال» الآتية من «أبوظبي» وسوف تجد لها هذه الأخيرة عملاً في مكتب للترجمة يضمن لها تأمين متطلبات السكن والعيش الكريم في بلد عربي مزدهر.
يُعدّ العنوان مفتاحاً للنص الروائي، وفي هذه المقابلة نتعرف على الفرق الكبير بين الأنثى والمرأة، فالأولى لها رؤية ثقافية وحضارية ووجودية للحياة، بينما تفتقر الثانية إلى هذه الرؤية. أما الغجرية فهي بعيدة تماماً عن المعنى السلبي الراسخ في الذاكرة الجمعية للناس، وقد انتقى منها المؤلف مفهوم التنقل والترحال من الوطن البيولوجي إلى الأوطان البديلة، ولهذا تقول الراوية وبطلة النص: «يصح أن تصفني بأنني أنثى بدوية أو غجرية لكوني في ارتحال مُستمر كغيري من إناث هذا الذي نسمّيه وطناً محلياً عربياً». وقد حاول المؤلف تعميم هذه الظاهرة المحلية التي تخص العراق وجعلها ظاهرة عربية تخص الشام وبلدان المغرب العربي.
يمكن اعتبار «أنثى غجرية» رواية ثقافية بامتياز، تقوم على التسامح بين الأديان، فلا فرق بين مسلم ومسيحي ويهودي، ويكفي أن أسماء يوسُف المسيحية قد لاذت بعائلة مسلمة وعاشت مع صديقتها زينب حتى تخرجت في الجامعة، وشاءت الظروف أن تلجأ إلى جميلة أزولاي التي تبيّن أنها يهودية وتحب أغاني المطربة العراقية سليمة مراد، وسوف تحتضنها منال الأمازيغية لتجد لها عملاً في مكتب للترجمة في أبوظبي وتحقق من خلاله الشهرة وبعض العلاقات الاجتماعية التي تخفِّف عنها وطأة الشعور بالوحدة بعد موت أبيها. ولأنها تعمّدت إماتة المؤلف والرواة فقد أخذت على عاتقها كتابة الرواية من خلال الرسائل الموجهة لأبيها وأمهاتها الثلاث؛ البيولوجية والفيزيائية والثقافية، من دون أن نهمل تخيلاتها، وشطحاتها، وأحلام يقظتها التي قالت فيها كل شيء تقريباً.

متعلقات