هناك مفهوم جديد يطلق عليه «تحمل المرض»» Disease tolerance»، فبدلا من محاولة التخلص من الكائن المسبب للعدوى علينا تغيير شيء ما في الوظائف الحيوية للجسم، أي الوسيلة التي تساعدنا على تحمل الكائن المسبب للمرض.
- استراتيجيات مضادة
من حيث المبدأ يمكن للإنسان حماية نفسه من الأمراض المعدية باستخدام ثلاث استراتيجيات مميزة هي: التجنب، والمقاومة، والتسامح. فالتجنب يقلل من خطر التعرض للعوامل المعدية، والمقاومة تقلل من عبء العوامل المسببة للمرض بمجرد أن تنشأ العدوى. أما التسامح فإنه يقلل من التأثيرات السلبية للعدوى على لياقة المضيف البدنية دون أن يؤثر على عدد الكائنات المرضية. وبدلا من ذلك يقلل التسامح من تعرض المضيف لتلف الأنسجة.
يقول بالافيري شيبر في الدراسة المنشورة في مجلة ساينس Science عام 2015: «يجب عدم الخلط بين مصطلح التسامح المستخدم في هذا السياق والتسامح المناعي المعروف بعدم الاستجابة للمضادات التي ينتجها الجسم. ومن المعروف أن الإصابات المرضية في الإنسان أو الحيوان تؤدي إلى تغيرات جوهرية في السلوك مسببة التعب وفقدان الشهية وحمى وتقلبات في النوم. كل هذه الأحداث تعرف (بسلوكيات المرض) وقد يساعد فقدان الشهية والإرهاق بالمثل في الحفاظ على العمليات الحيوية وتعزيز التسامح مع الإجهاد في كثير من الأنسجة».
إن الوسيلة الرئيسية لمكافحة العدوى هي مضادات الميكروبات مثل اللقاحات ومضادات الفيروسات والمضادات الحيوية. ولكن هناك قيودا على هذا النهج؛ فبالإضافة إلى أن المضادات لا تنفذ عملها على جميع الأمراض فهي أيضا تقتل البكتريا النافعة التي تعيش في الجسم وتساهم في زيادة مقاومة البكتريا الضارة (مثل البكتريا الفائقة). ومن المحتمل أن قتل الكائن المسبب للعدوى لا يحدد بالنهاية ما إذا كان المريض سينجو بعد إصلاح العجز الوظيفي (مثل التلف في الأنسجة أو الخلل في التمثيل الغذائي) الذي يحدث أثناء العدوى.
- تحمل المرض
وتدعم النتائج العلمية التي نشرت عام 2018 فرضية جانيل إيريس Janelle Ayres’ التي نشرت في مجلة «ذي ساينتسيت» التي طرحتها منذ سنوات وهي أن مكافحة العدوى يجب ألا تكون حربا شامله فبدلا من محاولة التخلص من مسببات المرض التي غزت الجسم، فإن المقترح هو أن تمنح تلك الكائنات ما تريده والتحول بها إلى أن تتطور تدريجيا إلى شيء حميد. وهو ما قد يقلل الأضرار الناجمة عن مسببات المرض والجهاز المناعي.
وتسمى هذه الظاهرة المعروفة باسم «تحمل المرض»، وهو الأمر الذي يمكن أن يفعله الجسم بصورة طبيعية من خلال الاستفادة من الأنظمة الوظيفية المختلفة، مثل التمثيل الغذائي للوقاية من المرض. وعلى الرغم من أن هذا الأمر يعتبر جديدا نسبيا على مستوى التعامل السريري، فإن بعض الأدوية التي كانت متوفرة في الأسواق منذ فتره طويلة تشجع هذه الاستراتيجية التي تعمل على تحسين النتائج.
وعلى سبيل المثال؛ ففي كل مرة يصاب بها الإنسان بالإنفلونزا ويأخذ دواء «تايلينول» فإنه يحاول تهدئة التفاعل المناعي الذي يجعله يشعر بالمرض. ونتيجة لذلك سوف يشعر بالتحسن رغم أن الدواء قد لا يؤثر على أعداد الكائنات المسببة للمرض في الجسم. وخلال الإصابة تظهر استجابات مناعية مصممة للتخلص من الكائنات المسببة للعدوى ويعتقد أنها الوسيلة الوحيدة أو الأساسية التي يتعامل بها الجسم مع مسببات المرض. ويقول روسلان ميدزتوف Medzhritov خبير المناعة في جامعة يال للعلوم الطبية في الولايات المتحدة، إن هناك آلية أخرى تسمى «التسامح مع المرض» حيث بدلا من محاولة التخلص من مسببات المرض علينا أن نغير بعض الأشياء في جسمنا مثل وظائف الأعضاء وهو ما يسمح لنا بتحمل وجود الكائن المسبب للمرض.
- جذور «التسامح»
روى الباحثون عن أول التلميحات عن «تحمل المرض» في الإنسان عام 2006 عندما وجدوا أن الأشخاص الذين لديهم نوع «ألفا» من الثلاسيميا (وهو اضطراب في الدم عادة ما يقلل من إنتاج الهيموغلوبين) يتمتعون بحماية بطريقة ما لنقص الحديد الحاد المرتبط بعدوى الملاريا.
تم تطوير مفهوم التسامح بوصفه استراتيجية دفاعية واستخدامها في دراسات مناعة النبات لعقود طويلة، وحديثا أدخلت في مجال مناعة الحيوان. وقد أظهرت الملاحظة الأصلية التي أجراها رابرغ وفريقه العلمي عام 2007 والمنشور في مجلة ساينس أن شدة المرض يمكن فصلها عن عبء العامل المسبب للمرض. وكان ذلك أول مثال واضح على تحمل المرض في الحيوانات. من جهته، حاول مزيار ديفانغاهي في بحثه الذي نشر عام 2018 في وكالة أخبار جنوب شرقي آسيا «ANI» أن يفسر لماذا يتحمل الغالبية العظمى من المصابين ببكتريا السل الرئوي، الإصابه حتى دون أن يتطور المرض. وقد أشار الاختصاصيون في هذا المجال إلى تلك الحالة المسماة «السل الكامن» التي يعاني منها ملايين البشر حول العالم. وأكد ديفانغاهي على أن الاصابة بالسل هي أفضل مثال على تحمل المرض.
- «التسامح ضد التأهب»
عندما يمرض الإنسان فإنه يريد أن يشعر بالتحسن مباشرة، ويبدأ الجسم بتحقيق هذا الهدف من خلال تنشيط الجهاز المناعي لكي يهزم الكائنات الغازية في أسرع وقت ممكن. وعادة ما تساعد اللقاحات الجهاز المناعي في هذه المعركة بينما تعمل المضادات الحيوية أو الأدوية المضادة للفيروسات كحلفاء في ساحة المعركة.
وتستهدف جميع هذه الوسائل، مسببات المرض وتمنعها من التكاثر والانتشار في الجسم. ولكن في كثير من الأحيان فإن ما يجعل الإنسان مريضا هو رده المناعي الذي يدفع الجسم إلى حالة التأهب. وهذا هو السبب في أن المريض يتناول المسكنات أو الأدوية الخافضة للحرارة مثل الاسيتامينوفين أو البراسيتامول والتي لا تؤثر على مسببات المرض على الإطلاق ولكنها تهدئ الالتهاب الذي يسبب الأعراض. وقد توصل العلماء حديثا إلى أن الجسم قادر على أن يعمل بالأسلوب نفسه لتعزيز الصحة من خلال تثبيط الاستجابة المناعية وتقليل الإصابة الناجمة عن مسببات الأمراض الغازية.
وعادة ما يقوم المريض أثناء العدوى بحبس الحديد في خلاياه حتى لا تتمكن البكتريا الغازية من الحصول عليه. وعند عدم توفر الحديد تقوم البكتريا بتحليل الهيموغلوبين الذي يحتوي على الحديد في خلايا الدم الحمراء وتحطم تلك الخلايا للاستفادة من الهيموغلوبين فيها.
ويوافق ألكسندر رودنسكي عالم المناعة في مركز ميموريال سلون كيترينغ للسرطان في بحثه الذي نشر عام 2017 في مجلة نيتشر على أن هذا الميدان بأكمله مثير للغاية، واصفا التسامح مع المرض بأنه منطقه جديدة تماما غير مستغلة إلى حد كبير ويمكن أن يكون لها تطبيقات ليس على الأمراض المعدية فحسب بل أيضا على الحالات السريرية الأخرى مثل السرطان، وذلك بالمساعدة في تجنب فقدان العضلات وغيرها من التشوهات المرضية التي تنشأ بسبب الإصابة بالمرض أو بسبب العلاج.
وفي مقاربة جديدة للعلاج، تدرس جانيل أيريس من معهد سالك للدراسات البيولوجية في منطقة جولا في كاليفورنيا والمنشور عام 2019 في مجلة ذي ساينتست كيف يتحكم الجسم ويصلح الضرر الجانبي الناتج خلال التفاعلات مع الميكروبات السيئة. أظهرت أيريس أن آليات التحكم في الأضرار لا تقل أهمية عن الجهاز المناعي للحيوان عند الإصابة بعدوى.
ومن المحتمل أن يؤدي اكتشافها لمجموعة جديدة تماما من آليات الدفاع إلى علاجات جديدة لن تتمكن البكتيريا من تطوير مقاومة لها. ولتشابه الأضرار بسبب العدوى أو بسبب الأمراض غير المعدية، فإن العلاجات التي تتعامل مع آليات السيطرة على الضرر يمكن أن تكون لها تطبيقات أوسع من المضادات الحيوية. في نهاية المطاف، من خلال الاستفادة من آليات التحكم في الضرر، تهدف الباحثة إلى تطوير علاجات للأمراض المعدية وغير المعدية (مثل الأمراض المرتبطة بالسرطان والشيخوخة) دون الحاجة إلى المضادات الحيوية.