سر حبي في صوت العظيم أبو بكر سالم
الاثنين 16 اكتوبر 2017 الساعة 22:34
وضاح عثمان

كنت في الرابعة من العمر عندما سجل والدي صوتي على كاسيت وانا أغنى "يا ورد محلى جمالك"، كنت طفلًا لا يعي معنى الشوق واللوعة لكنني اليوم أدرك أنها بداية قصة عشق مع صوت أبوبكر سالم بلفقيه.

يحمل عمالقة الفن ألقابًا تسبق أسمائهم إلا أبوبكر سالم، لا يوجد لقب يمكن أن يشكل إضافة إلى هذا الاسم، هو أبوبكر سالم هكذا مجرداً، يكفي أن تنطق هذا الاسم ليعرف السامع أنك تتحدث عن الصوت الخام الذي خلقه الله في البدء واقتطع منه للبقية أجزاء فأصبحوا فنانين يشار إليهم بالبنان !

‏هذه ليست مبالغة بالنسبة لشخص فتح "أذنيه" على الدنيا على صوت هذا الرجل، ليست مبالغة مع رجل جاوز السبعين ويصدر ألبوماً جديداً، وكأنه يقول: "أنا أغنى إذن أنا أعيش". أبوبكر الرجل الذي تستمع لأغنياتهِ وأنت في الأربعين أو الخمسين أو حتى الستين من عمرك فتتذكر سنين صباك وتحس بطعم الأيام على لسانك، أبوبكر الذي تعلق على أغنياته في اليوتيوب في 2017 هكذا: "كان أبي يحب هذه الأغنية" "وكذلك أنا!" أبوبكر الذي يحبه جيل الستينات وجيل الألفية الجديدة بنفس القدر، الفنان الذي يخترق الأجيال وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

‏لماذا أكتب عن الرجل؟

‏لأني أحبه جداً، أحب هذه التوليفة التي يمثلها كفنان وكإنسان طبيعي: صوت مدهش، ملحن، شاعر، مثقف، متواضع، لطيف المعشر، مرهف الإحساس، صاحب حضور مميز، ظاهرة فنية متكاملة.. أظنك سمعته وهو ينتقل بين الطبقات الغنائية بكل لطف وسهولة فيثير عاصفة من التصفيق بين الحضور؟ هل انتبهت لصوته كيف لا يسقط ابداً، وهو يصل المقاطع الغنائية ببعضها، ويجاري اللحن بإطالة الكلمات أو حتى بالصفير أحياناً؟ هل رأيت كتفه اليمنى كيف تميل قليلاً عندما يقرر أن يرتجل "عُرباً" كهدايا لمحبيه؟ هل رأيت كيف يستسمح جمهوره دائماً على أي تقصير يراه بكلمة "سامحوني حبايبي"؟ هل رأيت كيف يجن الحضور عندما يقف من على الكرسي فجأة أثناء الغناء وهو الذي اعتاد أن يجلس في حفلاته الأخيرة لكبر سنه؟ هل أدركت أن لا ألذ من أغنياته إلا سماعه يتحدث في مقابلة ما أو وهو يلقي أبياتاً من الشعر؟ من قال إن الشيطان يكمن في التفاصيل؟ التفاصيل مع أبوبكر تجربة تمزَج لا تنتهي.

‏جرب أن تجري مقارنات بين أغنياته المسجلة كصوت وبين أدائه لها على المسرح أو في الجلسات لتكتشف القدرة العبقرية في الأداء التي جعلت أغنياته لا تموت ولن تموت، في كل مرة ستشعر أنك تسمعها للمرة الأولى، هذه القدرات لن تجدها إلا عند ابوبكر سالم، انا لست كاتباً لأسترسل في الحديث عما يمثله هذا الاستثناء أو الظاهرة كما يسميه الموسيقيين في مصر، أنا فقط رجل فتح أذنيه على الدنيا على صوته وشكل صوته بذرة ذائقتي الفنية كما هو الحال بالنسبة لملايين الناس من محبي أبا أصيل.

‏قام أبوبكر بالقفزة التي عجز عنها الكثير من الفنانين اليمنيين، قام بتجديد أغانينا المعتمدة في الأصل على العود والإيقاع وجعلها متاحة للجميع فتنوع سامعيه من مختلف الثقافات أبرز الفن اليمني الثري والمتنوع، وأذكر أن أحد الأصدقاء العرب أرسل لي يسألني عن معنى "النوب من جبحة" إحدى أشهر أغنياته.

‏امتد عطاء أبوبكر المصحوب بتواضعه ليشمل فنانين شبان ممن رأى في أصواتهم مقدرة فتعاون معهم وغنى إلى جانبهم وأي شرف أكبر من أن تغني رفقة رجل إذا وقف ليغني تتبع الآلات الموسيقية صوته لا العكس من فرط المهابة. كما أنه وقف إلى جانب العديد من العازفين ودعمهم فعزفوا إلى جانبه أجمل أغنياته وعليه فلا عجب أن ترى الجميع إذا ذكر أبوبكر يقولون: "أستاذنا الكبير"، أو تراهم فرحين كالأطفال ابتهاجاً بعودته من رحلة علاج ناجحة، علاقة أب بأبنائه المحبين.. إنه أبوبكر، ملك التواضع والبساطة.

‏مسيرة عظيمة من العطاء الفني المتواصل تذكرتها قبل أيام وأنا أشاهده على الكرسي المتحرك يصر على الغناء وهو يقترب من الثمانين وكأنه يقول: لا يمكن أن أكون أمامكم على المسرح دون أن أغني، لقد خلق هذا الصوت من أجلكم، تذكرت حينها أولى أغنياته "يا ورد محلى جمالك"، "وين صندوق الكتب"، "يا قمري البان"، "يهون كيد العواذل"، "صدفة ويا محلى الصدف"، "أقوله ايه"، "بالغواني"، "غيار"، "لاني بنايم ولاني بصاحي"، "المحبة"، "عتابك حلو"، "يا حلا بستان"، "قال الفتى"، "أنسي معك طاب".

‏أبوبكر ظاهرة فنية فريدة ولا نعلم متى سيمن الله علينا بطفرة جينية تجعل حبال أحدهم الصوتية بهذا الشكل و توصله لهذا المستوى ونحبه بهذا القدر، دعواتنا لك بالشفاء والصحة وطول العمر يا حبيب القلوب.

متعلقات