حتى الآن تدفع اليمن ثمن الصراع الدولي بسبب الموقع الجيوسياسي للبلد وما يجري فيها عبارة عن مقدمات أولية لهذا الصراع.
ويبدو أن خط الحرير الصيني، والذي ارتبط ببحر العرب عبر ميناء جوادر الباكستاني، هو فتيل هذه الأزمة والحروب؛ يمر في المياه الدولية لم يتبق منه سوى نقطة الوصل في عدن وباب المندب كمحطة للعبور، كونها النقطة الحاسمة في هذا الخط برمته.
مازالت بريطانيا ترى الجنوب اليمني ملكية خاصة بها فقد تركتها في لحظة ضعفها في ستينيات القرن الماضي وانحسار نفوذها العالمي لتعود إليه عبر وكلاء إقليميين، والوكلاء الإقليميون اتخذوا لهم وكلاء محليين لذات الغرض. غير أن الوكلاء متذبذبون بين روسيا وبريطانيا اللتين تتنازعان النفوذ في عدن، وهو ما سيجعلها نقطة صراع عالمية.
فمن عدن وباب المندب سيتفرع هذا الخط إلى فرعين رئيسيين؛ فرع يتجه نحو البحر الأحمر إلى قناة السويس والبحر المتوسط، وفرع بري إلى أفريقيا عبر جيبوتي وأثيوبيا اللتين تقعان اليوم تحت النفوذ الصيني، ومنها إلى أفريقيا عموماً.
لذلك تبدو عدن وباب المندب محور الارتكاز لهذا التنين الصيني العملاق، وقد تتخذ كل الوسائل لدخولها تحت نفوذها، وقد تدخل عبر روسيا للجنوب أو بشكل مباشر دون وسيط.
قد تدخل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والصين وروسيا في مفاوضات أو تنازلات أو إعادة تقاسم نفوذ في المنطقة يتنازل الحلف الروسي الصيني عن بعض الأماكن ومنها سوريا مثلاً مقابل تنازلها للصين وروسيا في الجنوب مثلاً.
بالعودة إلى الأفلام السينمائية واستراتيجيتها في صناعة السياسات الدولية أو التنظير والتبشير بالخطط المستقبلية، فقد دخلت الصين هذا المضمار أيضاً؛ إذ مول الجيش الصيني إنتاج فيلم ضخم عن العملية يحمل اسم "عملية البحر الأحمر" Operation Red Sea تم تمثيله في المغرب العربي، وظهر لأول مرة 2015.
هذه الأفلام تعكس نظرات الدول المنتجة نحو بلادنا وما تخبئه الأيام نحو الصراعات المستقبلية.
ما يخيفنا في اليمن هو تفكك النخب السياسية وصراعها، وغياب القيادة الحقيقية للبلد، وغياب المشروع الذي على ضوئه تسير كل الدول، وكذلك غياب الإمكانات التي تعين الدولة والقيادة على اتخاذ القرار السليم وأين ستضع أقدامها أمام كل هذه المخططات.
نلاحظ أن منطقة ونقاط التوتر الحقيقية في البلاد هي عدن وما حولها شمالا وجنوباً وشرقاً لأنها النقطة الأساس في كل الصراعات الداخلية، تليها تعز كمحيط مؤمِّن لعدن ومدخل للبحر الأحمر الذي سيتفرع منه الخط نحو قناة السويس والبحر المتوسط نحو أوروبا، ولذلك سارعت بريطانيا لوقف تحرير الحديدة كمحطة من محطات التضييق والمنع لهذا الخط والتحكم بالملف.
النقطة المحيرة حقيقة من هذا الصراع أن بريطانيا تقف مساندة للحوثي في الحديدة على الرغم من أن إيران هي حليفة الحوثي وإيران حليفة كل من روسيا والصين علماً أن المليشيات الحوثية طالبت أكثر من مرة روسيا بالتدخل عسكرياً في اليمن لصالحها كما تدخلت في سوريا ولم تدخل روسيا حتى اللحظة في هذا الخط سوى امتناعها مع الصين عن التصويت في مجلس الأمن لصالح القرارات المختلفة بشأن اليمن.
باعتقادي أن العالم سيعود من جديد نحو التكتلات وإنشاء التحالفات العسكرية ستكون فيه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسرائيل حلفا واحداً ومن خلفهما حلف الناتو، والصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية حلفاً آخر، والعرب منقسمون بين الجهتين، وسيكون ميدان الصراع كما هو في كل التحولات العالمية بلاد العرب والمسلمين.
فحينما تم التحول العالمي إلى أحادي القطبية والتبشير بالنظام العالمي الجديد نهاية ثمانينيات القرن الماضي وبداية التسعينيات تم استدراج صدام حسين لاحتلال الكويت عام 1990 وبعمى بصيرة منه استجاب للاستدراج ونجحت الولايات المتحدة الأمريكية في مخططها لاقتناص اللحظة وتكوين تحالف تحرير الكويت؛ لأن الزمن كان زمناً مفصلياً عقب تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار حلف وارسو، ولا بد من تفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم، فكان الاستفراد فعلاً.
تمثل الصين اليوم القوة المهددة لهذا الاستفراد عبر تفوقها الاقتصادي وهو ما لن تتنازل عنه الولايات المتحدة الأمريكية ولن ترضى بعودة ثنائية القطبية من ناحية، ناهيك عن قبول التفوق عليها.
هذا الأمر يفتح الباب على مصراعيه أمام الحروب الكارثية الكبرى التي تتحدث عنها كل الديانات العالمية وخاصة اليهودية والمسيحية والإسلام، والتي تسمى في تراثنا الفكري "الفتن الكبرى".