*د. متعب بازياد*
لم يكن الإمام الطاغية يحيى حميد الدين ملكاً متوجاً ولا أحمد ولا البدر كذلك، فمقاومة الوجود العثماني في اليمن لم تكن حرب تحرير واستقلال، بقدر ما كانت دعوة لعودة حكم السلالة، وكان فساد الولاة العثمانيين محفزاً لانخراط يمنيين كثر في حروب الائمة تلك، فما إن غادر الجيش العثماني اليمن سنة 1918م، حتى اندلعت الانتفاضات القبلية في وجه الإمام يحيى في مناطق شمال اليمن، ولم تخضع المناطق الوسطى وتهامة لحكمه إلا بقوة الغزو وبشاعة التنكيل بالخصوم والزعماء المحليين.
لقد وعاها اليمنيون مبكرا، إنها دعوة (السادة) لدولة السلالة، لا علاقة لها باستقلال الوطن وسيادة الشعب. فالمملكة المتوكلية الهاشمية التي أعلنها الإمام يحيى، لم يكن لليمن فيها يوم وطني، ولا للشعب فيها عيد، فأعياد الوطن خارج تقويم الإمام الطاغية، ومفردة الشعب لم تدخل قاموسه، يحتفي وأحفاده بيوم (جلوسهم) على العرش و(سيادتهم) على اليمنيين فحسب، يدبجون الخطب والقصائد ويسودون الصحف والجرائد، في مديح الشجرة المباركة والجينات الزكية من النطفة المقدسة، لا حظ لا مجاد اليمن وبطولات اليمنيين -في أعيادهم- أو تاريخ حضارتهم وعلو كعبهم بين الأمم، فالحكم -عندهم- إرث يٌستحق بالميلاد واتصال (المشجّر)، وليس رئاسة وزعامة تُكتسب بالسعي واجتراح البطولة أو خدمة الشعب والبناء والتنمية.
في سجن(نافع) بحجة، صفّد الطاغية أحمد حميد الدين معظم زعماء ومفكري ونقباء اليمن -كلهم أصلحُ وأقدرُ وأكفأُ منه لقيادة اليمن- هم طليعة الشعب اليمني المتهمون بالثورة على أبيه، نظرة سريعة لقائمة نزلاء سجن نافع -الذين اُعدم جُلّهم- تعكس الصورة الموحشة والطبيعة المتوحشة لحكم الإمامة، الجهل والطغيان يطفئ النور ويخنق الحرية.
إن حركة الأحرار اليمنيين التي تزعمها الشهيد الزبيري والأستاذ النعمان ورفاقهما، لم توقظ الشعب من غفلته فحسب بل إنها نظمت طوفانه وضبطت بوصلة غضبه نحو فكرة الاستبداد وبذرة الاستعباد ولعنة الاصطفاء المزعوم. لذا كانت ثورة اليمن على غير نظير لها في عالمنا العربي ومحيطنا الإقليمي وتاريخنا المعاصر. أشبه ما تكون بثورة أوروبا على سدنة الكنيسة وتهريج القديسين.
قدمت جمهورية سبتمبر لليمن واليمنيين الكثير من الإنجازات، في التعليم والثقافة والصحة والطرق والاتصال، في تطوير بنية المجتمع وغرس قيم المساواة والمواطنة المتساوية، الإعلاء من قيمة الكسب والعمل والسعي والمثابرة، أعادت لليمنيين كرامتهم ولليمن مكانته. ذلك لأنها أرست قواعد جديدة للحكم. تدور حول الإنسان حيثما دارت مصالحه وحاجاته أحلامه وتطلعاته. بها استعاد الشعب حريته وملك إرادته، يصعد الحاكم من بينهم، لا يميزه عنهم إلا ما اكتسبه بنفسه -مما هو متاح لهم جميعا- واجترحه بعصاميته، لا بزرقة عينيه وجينات أبيه ووصية جده، إن أخطأ فليس بمعصوم ولا بقاءه قضاء محتوم.
بسبتمبر ظهر اليمنيون في العصر الحديث وكأنهم بعثوا من القبور، لقد شكل عهد الثورة طفرة تطور وقفزة في حياة الشعب اليمني أدرك اليمن بها ركب الحضارة وتمكن من أدوات الحداثة وأثبت اليمنيون جدارتهم في مجاراة من سبقهم لفضاء عصر العلم والتمدن. ليس ذلك بعديد الجامعات ولا المعاهد والمؤسسات الثقافية والمعامل الصناعية فحسب، بل أسهم رجال اليمن ونوابغه في نتاج فكري وعلمي إنساني وحضور إقليمي ودولي.
الأخطاء التي تعتري أي تجربة إنسانية أو نشاط بشري، لم يكن نظام الجمهورية بعد الثورة منزهاً منها، وقد كلف إصلاحها -في الجنوب والشمال وبعد الوحدة- إزهاق النفوس وإهدار الإمكانات، غير أن كلفة فاتورة معاناة اليمنيين مع الإمامة السلالية مضاعفة، ذلك أنها ضد نواميس الكون وقيم الإنسانية والأمم المتحضرة، متسلحة بصكوك السماء-حسب زعمهم- وحروز القرون الغابرة.
وجمهورية سبتمبر بعقودها الستة سلبتهم بيئة تكاثر فطرهم وتمدد سرطانهم، كان ثالوث الفقر والجهل والمرض حليفهم في كل منازلاتهم، حتى ظهروا أخيرا في نسخة مشوهة منبوذة.
لقد تسللوا مؤخرا من شقوق السد الجمهوري، ومن اختلاف القوى السياسية والمدنية اليمنية يستمدون أكسجين رئتهم.
في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ شعبنا، علينا أن نستلهم من ثوار سبتمبر وحدتهم وعظيم تضحياتهم والتسامح فيما بينهم.
لقد عصفت بثورة سبتمبر عواصف أقوى وأعتى مما يعصف بجمهوريتها اليوم، لكن قيادة الثورة كانت عند حجم التحدي.. هي لحظة البر باليمين والوفاء بالقسم والولاء للوطن والصدق مع الشعب.