• تغيير القناعات
والكتاب الذي ترجمه العراقي موفق الدليمي، والصادر حديثاً عن دار "الأهلية للنشر والتوزيع" في الأردن، يستعيد التحوّلات الأساسية التي شهدتها سيرة الروائي منذ أن أصدر أول أعماله "المساكين" وقد انضمّ بعدها إلى "جمعية بتراشيفسكي" السرية التي تبنّت رؤية ثورية للإصلاح، وبسببها تم القبض عليه عام 1849 وحكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات في سيبيريا ثم بالخدمة جندياً، وهناك في المعتقل يجد متسعا من الوقت للتذكر والتأمل فيعيد النظر في كل قناعاته، ورغم أن تلك القناعات المعدلة أو البديلة تسربت إلى ثنايا رواياته إلا أنه تحدث عنها تفصيليا في كتابه "يوميات كاتب" الذي ضم مقالاته الأخيرة، وقد نشر مقاله الأخير يوم وفاته.
وفيه قال: "إن الخطأ الرئيسي للمثقفين الروس هو أنهم ينكرون تأصل الكنيسة في الشعب الروسي، وأوضح أنه لا يقصد بالكنيسة المباني ولا الرعية بل الاشتراكية الروسية باعتبارها كنيسة كونية، وهي حالة أخلاقية تتحقق عندما يتصرف الجميع وفق ما تمليه عليهم ضمائرهم"، وكانت نفس الفكرة قد راودته سابقا فكتب في مقال سابق (الكنيسة هي الناس كافة) أي انها ليست مؤسسة منفصلة عن الناس ومتسلطة عليهم، بل هي دائرة روحية تطابقهم تماما".
هذا المفهوم شديد الخصوصية ظل يلح عليه مرتبطا بهاجس الموت ربما بفعل تأثير نوبات الصرع المتوالية، لكنه لم يكن ذاتيا بل جاء معبرا عن رؤاه المتغيرة للناس ولقضاياهم وللكون بأسره، مما اقتضى مقارنات دائمة بين كتابات دوستويفسكي وأحداث سيرته، وهو الذي تحرر من الانضواء تحت لواء جماعة أو داخل حدود أيديولوجية ضيقة، لذا غير قناعاته الثورية لكنه ظل يحمل النظام القيصري مسئولية المظالم الاجتماعية، فقد أدان الحكومة الروسية كما أدان العنف الثوري، فالحكومة الروسية في رأيه تمثل الرجعية وهي والثورة تنبعان من منبع مشترك هو "الانقطاع المزمن عن الشعب"، ما ترتّب عليه الاحتراب الدائر بينهما، والذي لن يفضي إلى شيء، لأنه لا يستأصل "جذر الشر"، لذلك كان يرفض التفجيرات ويرفض كذلك العقوبة التي تنزلها السلطة بمرتكبيها حين تقبض عليهم، حيث رأى أن "القيصر ليس بقوة خارجية بالنسبة إلى الشعب، القيصر تجسيد له ولمجمل أفكاره وآماله ومعتقداته"، ولو كان الأمر كذلك لما أمر القيصر باقتياد الثوّار إلى السجن أو إلى المقصلة، كانت تلك معضله لكن دوستويفسكي وبحسب الكتاب "كان يضمر لها حلها الخاص"، يتمثل هذا الحل الحالم في العفو عن الثوار مع مطالبتهم بعدم العودة لهذا المسلك، فقد رأى أن ممارسات الحكومة تدفع للثورة، أي تلجىء الثوار للعنف، وكان يستبصر ما وراء ذلك فاتخذ موقفا عبر عنه إيجور فولجين بقوله "كان يخشى الثورة المضادّة بقدر خشيته من الثورة"، وهو الموقف الذي صورته بعض أحداث رواية "الإخوة كارامازوف".
• ملابسات الموت
مع حلول عام 1881 هدأت اضطرابات الفلاحين، وتوقفت عمليات الإغتيال وتحدثت الصحافة الروسية عن اصلاحات قادمة، وكتب دوستويفسكي في "يوميات كاتب" مقالا عن تحالف القيصر والشعب، لكنه لم يقتنع أن مثل هذا التحالف يمكن أن يتحقق لمجرد إحداث اصلاحات اقتصادية، فإذا كان القيصر هو الأب والشعب أبناؤه فإن صلة القربي تلك لا يعززها المال، بل تقوم على أسس أخلاقية مغايرة تماما".
وكتب في عدد من يومياته عما أسماه "إنعاش الجذور" فالإصلاحات الاقتصادية وتخفيض الضرائب مجرد مسكنات "لا تخرج الأمة من المأزق" فالتدابير الإدارية تضع العربة أمام الحصان، ورأى أن النهوض الاقتصادي لن يتحقق إلا "بتحسين المناخ المعنوي" فانعدام "الطمأنينة الروحية يعنى انعدام أية طمأنينة أخرى"، لذا طالب دوستويفسكي بالحرية التامة للصحافة مع إلغاء أية اجراءات إدارية أو قضائية تحد من حرية التعبير.
في تلك الفترة يعكف الروائى علي وضع اللمسات الأخيرة لرواية "الإخوة كارامازوف"، ويختار من بين مقالاته لينشرها في الجزء الأول من كتاب "يوميات كاتب"، ثم يكتب فجأة عن استشعاره دنو أجله، فكيف يستشعر الموت وهو يخطط مع زوجته "آنا جريجوريفنا" لشراء ضيعة في موسكو من دخل الكتابين، يقول لها "سنمكث هناك حتى قدوم الخريف ثم نعود إلى هنا، لسوف تتحسن صحتك وصحة الأولاد"، فكيف يكتب بعد خمسة أيام من إعلان خطته المستقبلية تلك "أيامي معدودة"، بعدها تحكي زوجته عن حادث صغير وقع مساء 25 ديسمبر/كانون الأول، حيث وقع حامل ريشة الكتابة وتدحرج تحت منضدة الكتب، فأزاحها دوستويفسكي ليستعيد الحامل، وبذل مجهودا كبيرا نظرا لثقل المنضدة مما أصابه بنزيف أخبر به زوجته صباح اليوم التالي، وهو اليوم الذي شهد شجارا بين فيودور وشقيقه، مما أدى إلى معاودة النزيف من الحلق، وكان غزيرا لدرجة أنه فقد الوعي.
تلك رواية الزوجة لكن الفصل الثاني عشر يحكي عن رواية أخرى لملابسات الموت فيتحدث عن إقامة ألكسندر بارانيكوف العضو بمنظمة "إرادة الشعب" السرية والمطارد من السلطات، في الشقة المقابلة لشقة دوستويفسكي، وكان يجهز خطة لاغتيال القيصر، وتمكّن الأمن من رصد أعضاء المنظمة ومعرفة أماكن اختبائهم. وبدأت عمليات القبض عليهم في السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 1881، لكن بارنيكوف استطاع الهرب، وفي تلك الأثناء يُصاب دوستويفسكي بنزيف حاد وغامضٍ يؤدي لوفاته بعد أيام معدودة، حيث تشير بعض الأدلة التي حاولت زوجته إغفالها في مذكراتها بسبب موقفها المؤيد للنظام، إلى أنه نقل في تلك الليلة أشياء ثقيلة من شقة جاره، وأخفاها وهذا المجهود لم تحتمله صحته مما أدى إلى موته.
يرجح الكاتب الرواية الثانية ويختتم كتابه بفصل عن مراسم دفن دوستويفسكي كفعل سياسي، فقد كانت الجنازة الأكبر في تاريخ روسيا القيصرية، ثلاثون ألفاً من رجال الحكم والكنيسة ومعارضيهم ومن أفراد الشعب العاديين الذين صور الراحل نماذج منهم في كتاباته، التقوا جميعا معا خلف نعش الرجل الذي نادى بتجمعهم كشرط للخروج من المأزق، وبحسب الكتاب: "لقد اختتم هذا الموكب عصرا كاملا.. غير أن تشييع دوستويفسكي كان موجها بقدر أكبر نحو المستقبل، فقد أعرب عشرات الألوف من البشر عن آيات الاحترام والحب لمن كان يدعو إلى تجددهم أخلاقيا، كخطوة أولى نحو تغيير نظام الحياة العام".