"فلسفة اللذة والألم" كما رآها إسماعيل مظهر
الجمعة 30 نوفمبر 2018 الساعة 23:08
الأحرار نت/ القاهرة/ أحمد مروان:
كانت الفلسفة اليونانية خلال العصور القديمة محورًا دار مِن حوله الفكرُ البشري عصورًا متعاقبة، ولم يفلت العالم من التأثُّر بالفكر اليوناني تأثرًا مباشرًا، إلَّا منذ عهد قريب قد يكون عصر نيوتن مفتتحه، وعصر داروين ختامه، ومن العجيب أن تتأثَّر كل نواحي الفكر بما أبرز العقل اليوناني من منتوج، وما خلَّف من مستحدثات حتى إنَّ رجال الدين في العصر المسيحي قد عمدوا إلى منطق أرسطوطاليس كما عمد العرب إلى الصور التي استحالت إليها الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني في مدارس الإسكندرية ونصيبين والرُّها وغيرها، يستعينون بها على وضع قواعد «الكلام» في صورة جديدة، تؤيد المعتقد الديني من طريق عقلي صرف، على قدر ما يتقيَّد العقل الإنساني بمنطق أساسه الاستنتاج دون الاستقراء.

في كتاب إسماعيل مظهر "فلسفة اللذة والألم" الذي أصدرته "وكالة الصحافة العربية – ناشرون" في طبعة جديدة يؤكد أن مذهب اللَّذة والألم في فلسفة الأخلاق، ثابت، درج مع القرون، خرج بداءة من قُورينة الأفريقية، قائمًا على فكرة أساسية في مذهب سُقراط وبرُوطاغُوراس ولُوسِيفُوس ودِيمقْربطِس، ثم عاد إلى اليونان فتشكل في ذهن أبيقُور بصورة، ثم في مدرسة الإسكندرية بأخرى، وعند الرُّوافيين بثالثة، وأخذ يتنقل خلال العصور، إلى أن برز في صورة كونها بِنتَام ومِل وَأترَابُهما، فلابسته المنفعة بدل اللذة، وهذا الكتاب تنفيذ جزئي لهذه الفكرة العملية.

يقول الكاتب والمفكر إسماعيل مظهر: غمرتني فكرة خلود الإنسان، وخلود آثاره، وهي في الواقع فكرة اشتركت في وعيي بنابليون، وما يضفي عليه بعض المؤرخين من صفات الخلود. يقولون: إنَّ نَابليون رجل خالد! ولكن بالقياس على أناس غير خالدين، ممن تعد من خلائق الله. ويقولون: إن مصر خالدة! ولكن بالقياس على أمم أصبحت أحاديث وأخبارًا في بطون الكتب، أو أساطير تُروى عن القرون الأولى. ويقولون: إنَّ مذهب سقراط الفلسفي مذهب خالد! ولكن بالقياس على مذاهب بادت من عالم الفكر، غير مخلِّفةٍ أثرًا؛ فظهرت واختفت كأنها نبت الصحراء يخرجه الغيث ويطويه الجفاف.

ويضيف المؤلف: إنَّ في التاريخ البشريِّ ما يدل على أن شعوبًا كالفراعنة وأهل الصين والهند صمدت لأعاصير الزمن، واحتفظت بكيانها على الدهور فلم تَبِد ولم تنقرض، ولكنها صالت واستكانت، وتناوبت عليها دورات من الصولة والاستكانة، احتفظت خلالها جميعًا بطابع من القوَّة، ووُسمت بسِمة من الجلَد على مدافعة النوائب، صامدة للشدائد، بعيدة عن أن تذعن لهزيمة، تسلم بها إلى الفناء. فهذه شعوب خالدة تشبه الخالدين من الذوات، تجد في عالم الفكر نظير هذه الأمم، مذاهب فلسفية تنقَّلت على مدى الزمان، وظلت منذ وُلدت إلى الآن حيَّة فتية، فهذه مذاهب خالدة تشبه في عالم الفكر؛ تلك الأممَ في عالم الإنسانية.

اليونانيون ومذهب اللذة والألم

وتترامى الأشعة التي بعث بها الفكر اليوناني القديم من أغوار الماضي السحيق سنيَّة وضَّاحة، فتضيء الظلمات على المدنيَّات المختلفة منذ القرن الخامس ق. م حتى اليوم، ولا جرم أنَّك لن تقع على شيء تحت الشمس لا يمتُّ إلى الفكر اليوناني بسبب، كما يقول العلَّامة جِلْبَرت مَري الإنجليزي؛ فكان من أثر ذلك أن تطرَّف البعض من مُقْدِمِي المفكرين في العصر الحديث، إلى القول بأنَّ الفلسفة اليونانيَّة، بل وكلَّ الآثار التي صدرت عن الفكر اليوناني «أصيلة» غير مدخولة بعناصر غريبة من الفلسفة أو العقيدة أو الفكر، وأنها لم تَلْقَح بأي أثر من الآثار التي نشأت قبل مدنيَّة اليونان في الشرق.

ولا شك في أنَّ الذين يذهبون هذا المذهب لهم المبررات التي تؤيِّد نزعتهم، ولهم الأسباب التي يرتكزون عليها في الحكم بأن الفكر اليوناني «أصيل» نشأ في عقول الإغريق القدماء، وعنها صدر من غير أن يكون للحضارات الأُخَرِ أثر فيه قليل أم كثير.

يكشف الكتاب أن العظمة التي نشهدها في أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأرسطيس وديمقريطس وأبيقور، وفيثاغورس وطاليس وأبقراط وجالينوس، لعظمة تفوق كلَّ ما تقدمها من صور النُّبل الإنساني، إن لم نقل إنَّها تفوق كلَّ ما عَقِبَها حتى اليوم، مع قياس الفارق بينهم – وهم روَّاد الفكر – وبين المحدثين – ورثة هؤلاء الرواد العظام – والفاصل لا يقل عن خمسة وعشرين قرنًا من الزمان.

يمكن اعتبار هذا الكتاب أيضا من الكتب التي تكشف نشوء المسيحية والإسلام، ونشوء ما لا يُحصى من مذاهب الفلسفة والعلم والأخلاق، فلم تفلت ناحية من هذه النواحي من التأثُّر بمبتكرات الفكر اليوناني، تأثرًا عميقًا بالغ المدى.

ويرى إسماعيل مظهر أنه مهما يكن من أمر اليونان وتأثُّرهم أو عدم تأثرهم بما سبقهم من منتوج الفكر البشري، فإن الأمر الثابت أن أثر اليونان فيما تبعهم من المدنيَّات عميق جدا.

أما تأثر اليونان بما سبقهم من الحضارات، فإن ثقات المؤلفين قد اختلفت فيه مذاهبهم وتدابرت آراؤهم، غير أنَّ كفَّة القائلين بأنَّ الفكر اليوناني قد اغتذى وكسب من غيره، ترجح كفة القائلين بأن الفكر اليوناني «أصيل» نشأ في ثرى اليونان، وتكيف في ثنايا العقل اليوناني، غير مدخول بأي لقاح خارجي أو وراثة أجنبية.

فالعلَّامة ميير الألماني يرى أن المدنية اليونانية لم تبدأ في الارتقاء الحقيقي إلَّا بعد أن احتكَّت بالشرق في إيوليا وإيونيا في آسيا الصغرى، حيث كان في تلك البقاع مدنية أرقى من مدنيَّة الإغريق. ويقول العلَّامة دنكر: لم يبقَ من شيء في مدنية اليونان لم يتأثر من اتصالهم بمدنيات آسيا الصغرى حتى دينهم، فإنَّه على الرغم من أنه يكاد يكون خاصًّا باليونان، ونشأته ذاتية بينهم، فإنَّه تأثر بأديان الشرق، واقتبس الكثير من أصولها ومعتقداتها.

متعلقات