قلّ أن يستحضر القارئ ما قبل النص، فإن فعل فهو المتلقي إيجاباً، ناقداً أو قارئاً محترفاً. ما قبل، هو وضع النص قيد التكوين وخلال الإخصاب بمفاعيله ومواده المختلفة ليأتي سوياً. يقيناً، ليس الأدب وحياً يوحى، وقديماً قال الفرزدق: «يأتي علي وقت يكون فيه قلع ضرس أهون من قول بيت شعر»، أي مخاض العملية الأدبية، وادي عبقر ليس غير ضرب من السحر فيها والإعجاز، فيما حقيقتها يعيشها كل (مبدع) في ما أسميه حديقته السرية، مختبره.
سبق لي أن قاربت هذا الموضوع في كتاب لي سابقاً: «عمل الكاتب، الكاتب وهو يعمل» (أزمنة، عمان، 2007) اقتفيت فيه أثر روائيين من عيار كبير، شرحوا هم أنفسهم طرائق كتابتهم ومقتضيات عملهم، أتحدث عن فليب روث، يحرث أرضه الخصبة، عن بريمو ليفي، كونديرا ونايبل، وقد همني كثيراً كاتب الرواية البوليسية الشهير ستيفن كينغ (1947-) الذي ألف كتاباً فريداً في طرق اشتغال الكاتب وما يحتاج إليه من عُدّة بكونه يمارس حرفة دقيقة كأي حرفة أخرى، عنوانه: «On writing a memoir of the graft «(2001)، (كتابة، مذكرات مهنة) هو عندي أدق من كتاب سابق عليه لهنري جيمس (1843- 1916): «درس المعلم» إذ يكشف كينغ ما يتستر عليه الكاتب كما لو أنها خبرة الصياغة عند صاغة الذهب.
تلك ولها نظائر، من قبيل ما يدخل في باب الإرشاد والتوجيه للأدباء الناشئين، منه ترجمتي «رسائل إلى شاعر ناشئ، ورسائل إلى روائي ناشئ» لريلكه وماريا فارغاس يوصا (أزمنة، عمان، 2005) تسنّ القواعد وتكشف عن الصعاب، وتفصح كذلك عن سيرة الكتابة، باتت تتكفل به أحيانا المدوّنة السردية ضمن ما يعرف بالميتا- سرد. وقديماً أيضاً كان الأدباء يشقون طريقهم وهم يسعون للاتصال بالمكرّسين ومجالستهم في صالونات لهذا الغرض (صالون شارل نوديي حضره هوغو وألكسندر دوما، وألفريد دو موسي، يشبه لاحقاً مائدة الثلثاء الأدبية كانت تنتظم عند ملا رمي، ومن حضورها أندريه جيد وبول فاليري).
بيد أن هناك الأهمّ والأجدى، يتمثل في فعل انخراط الكاتب في العملية الإبداعية بكيفية تجريبية، حوارية وتفاعلية، بالمصطلح الحديث، تبرز بطريقة توجيهية، وإن أستاذية نوعاً ما، وهذا فضاؤه ورش ومختبرات كتابة يشرف فيها على تمرين الناشئة لطرق فن أدبي، القصة القصيرة، خير مثال له محترف أخير أشرف عليه باقتدار الروائي المصري مكاوي سعيد بتشجيع من الدار المصرية اللبنانية أثمر كتاباً لطيفاً: «الطريق إلى النبع» (2017).
ومنه، في شكل متقدم التجارب التي انخرط فيها غابرييل غارسيا ماركيز-غابو (1927ـ2014) يتيح لنا مصنف غنيّ الاطلاع على محترف الكتابة الكبير الذي أنشأه، وحضر فيه لا روائيا ذا قامة عالية، وهذا مسلم به، وإنما مشاركا مع آخرين نِدًّا لِنِدّ.
هما كتابان صدرا في وقت واحد(1992) ترجما أخيرا إلى الفرنسية بعنوان مشترك هو:» كيف تقص قصة»(سيغرس2017).في الإسبانية طبعتهما الأصل حظي هذا التأليف باهتمام خاص وذلك، لإضافات مدققة ومعلومات ثرية عن السيرة الأدبية لصاحب «مائة عام من العزلة»، متآزرة بغرضها الأساس، فيها تبيان كيف يتأتى قص أو قصة سردها، هذه القصة التي تصل إلينا منتهية في طبخة ناضجة، جاهزة. هل من حاجة للقول إن للسؤال أهمية في ذاته، وأكبر وأجدر هو من يجيب عنه، وكيف، وفي أي إطار وبأي سياق، وهذا هو الجديد هنا.
إن ما قام به (غابو) لهو عمل حِرَفيٌّ بالتمام، وحين نفّذه كان قد تُوِّجَ بجائزة نوبل (1982). دليل اكتساب خبرة وصيت وحِرفية تتعدى التفوق في الرواية إلى استحقاق فن الحكاية، المتجذر في أدب أمريكا اللاتينية بروحها المسماة (سحرية magico)، أستاذها المكسيكي خوان خوان رولفو (1917-1986). هذه شعوب تولد حكّاءةً ولا تُفطم أبدا من القص، وهي تتخذ أشكالا وطرقا، الرواية الحديثة إحداها فقط، وبرعت في سواها.
لذلك اتجه ماركيز مستثمراً علاقته الجيدة مع نظام كاسترو فأنشأ في بلدة شمال كوبا مدرسة دولية للسينما ساهم شخصياً في تمويلها وأعطى فيها دروساً، مخصصة لكتاب سيناريو شباب واعدين. وضع هدفاً جذبَ مواهب من أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا أيضاً، وحفزهم بالتكوين لوضع تخييلات سينمائية تغدو قادرة على منافسة الإنتاج الهوليودي، من دون مزعم النموذج الأميركي.
معلوم أن غابو سبق وكتب سيناريوات ناجحة لأفلام طويلة. ننوِّه بأنه نبه في محترفاته دائماً إلى تمييزه بين كتابة السيناريو باعتبارها يمكن أن تنجز مع جماعة، إذ الفيلم عمل جماعي، وبين إنشاء رواية، هي» مغامرة متوحدة وداخلية». بيد أن قارئ المصنف الضخم الذي نحن بصدده لا بد أن يرصد عديد ملاحظات وإشارات تنطبق على الرواية قدر ما تنطبق على الفن السابع، بحكم اشتراكهما معاً في فن التخييل Fiction.
أجل، فنحن نلج إلى كواليس ورشة خطيرة لواحد من أهم الكتاب المعاصرين، تنهض على ثلاث مرتكزات: التواضع، فكل مشارك هنا بذاته، لا بأوسمته، واحد من مجموعة، ثانياً، نَهمٌ بلا حدود للحكي، دينامية يدفعها غابو في أعضاء المحترف، وثالثا، تدقيق ما يصنع الحكاية حقا ويميزها عن الفكرة، هذه تلتقط رأسا بالفكر حتى ولو تموّهت، هذا أخطر رهان للمجموعة.
يخبرنا ماركيز أن مشروع محترف الكتابة ولد ذات يوم حين اتصل به شخص من محطة تلفزيونية يطلب منه إعداد ثلاث عشرة قصة حب تجري في أميركا اللاتينية. وقتئذ كان يشرف في المكسيك على محترف لكتابة السيناريو، فاقترح على المشاركين أن يمدوه بعدد القصص المطلوبة مدة كل واحدة نصف ساعة، وهذا ما حصل، فقد حمل كل واحد فكرته، ضمن عمل جماعي انتهي بنسبة كل سيناريو إلى صاحبه، والخضوع فقط لشرط المنتج وضع إسم ماركيز علامة على المنتج( البضاعة) تشجيعاً طبعاً لتسويقها. وبما أن الدفع لم يكن مجزياً، يقول غابو، قررت مع المجموعة أن نكتب سيناريوات قصصنا جماعة ونحن من يتولى إنتاجها، لكل اسمه، مكتفياً بوضع اسمي هكذا «محترف غارسيا ماركيز». وانطلق المشروع، هذا الذي نتابع شريطه الطويل بين كتابين:» كيف نقصّ قصة» و «أحلام للبيع».
ثمرة ما أنجز في المدرسة الدولية للسينما في كوبا لكتابة السيناريو بخطة الإبداع الجماعي، تختلف عن نظام الورشة ومفهومها، إذ هنا كاتب محنّك طرف وشريك بخبرته مع آخرين في حكم الكتاب، يناددونه، وهو يتدخل بمقدار متساو ومناسب لا واصٍ أو متحكم. ماذا يهم في رأي غابوا؟ الصراحة المطلقة في إبداء الرأي والملاحظة، ومعها: «الأكثر، هو صيرورة الإبداع. أي ما هي هذه الآلية العجيبة التي تحول رغبة قص حكاية إلى شغف كلِّي، لحد أن الإنسان يمكن أن يموت من أجلها، أو يهلك جوعاً ويتعرض لأي وبال من أجل تحقيق هدف غير ملموس، لا حسّي، لا نفع مادياً وراءه؟ (...) ظننت أحياناً، أو توهمت، أني قادر على اختراق سر الإبداع، اللحظة الدقيقة التي حين تنبثق فكرة وتفرض نفسها، ما يتعذر تماماً، لا أعرف بتاتاً متى يحدث [هذا]. هكذا، فإن فعل الابتكار الجماعي للحكايات صار ديدني» (19).
لنأت، الآن، إلى تطبيق كيفية عمل المشروع، كتابة السيناريو جماعياً. هي أولاً، مجموعة، ومطلوب من كل مشارك كاتب مفترض أن يحمل، يروي حكايته، الأصلية طبعاً، والتي ستنكبّ المجموعة على تشغيلها، أي انطلاقاً منها اقتراح حكايات لصنع عديد سيناريوات. هي إذاً، بمثابة مادة خام، نواة، إلى أن تكتمل محكيةً مجسدةً شخصيةً وحدثاً وصورة وفكرة. مع الالتزام بنصف ساعة بالضبط. شرط يجعل أي قصة تنضغط في القرص المدمج للزمن. السيناريو الأول من اقتراح كونسويلو غاريدو، عنوانه الأول هو (لص الليل) ويتغير أخيراً إلى (سارق يوم السبت).
قصة شخص تعوّد على السرقة نهاية كل أسبوع، دخل إلى بيت ليل سبت، صاحبته سيدة ثلاثينية حسناء وتأرق. تحت التهديد تسلمه حليّها وتترجاه أن لا يوقظ ابنتها ذات الثلاث سنوات، بينما تنتبه له هذه مستيقظة فيلاعبها بما تحب، ويقرر البقاء في البيت، استطلع من قبل أن الزوج يتغيب لن يعود قبل مساء الأحد، طالباً من الزوجة أن تعد له العشاء، ويقضيان السهرة سوياً، كي تتخلص منه تخطط لتخديره لكنها تشرب كأسه، ثم تنام لتصحو في الغداة وتجده يلاعب ابنتها ويقضيان يوماً في كامل الانسجام قد أنست به ويرجع لها حليها وهو يستعد للمغادرة فتخبره أن زوجها سيكون غائباً أيضاً السبت القادم.
على هذه القصة يبدأ العمل، بتفكيكها مثل أجزاء محرك، وإعادة التركيب من كل الزوايا، انطلاقا من مبدأ أنه ينبغي أن نكون قادرين على إعادة النظر في ما يراه الجميع جيداً، على البتر ما يُقوّي حاسة النقد الذاتي، وأن يتوافر لكل قصة نبرها وأسلوبها وتقنية سردها. في النسخة النهائية نجد بين أيدينا سيناريو مختلفا جداً، تدخل فيه أكثر من خيال وصنعة وفكرة، وإذ يؤول إلى مؤلف واحد فهو فعل إبداع جماعي، في تجربة فريدة، يقودها معلم كبير.
المصدر: صحيفة الحياة