الروائية اليابانية يوكو أوغاوا التي حازت عدداً من الجوائز المعتبرة، وبلغت شهرة كبيرة في بلادها وخارجها بعد أن ترجمت إلى العديد من اللغات، مرة جديدة نقرأها بالعربية مع صدور روايتها «حذاء لك» عن «دار الآداب» من ترجمة معن عاقل. وكانت الدار نفسها قد أصدرت لها سابقاً «حوض السباحة» و«غرفة مثالية لرجل مريض». والكاتبة المعروفة بأجوائها الغرائبية، واكتناز جملها، وكثافة نصها، تحكي لنا هذه المرة قصة موظفة استقبال، في مختبر فريد من نوعه، يحفظ عينات عجيبة لأناس يريدون صون ذكرياتهم لكن بعيداً عنهم. المختبر الكبير الذي يديره صاحبه غريب الأطوار ديشيمارو، كان مسكناً لفتيات شابات، فرغ منهن بمضي الزمن إلا اثنتين صارتا عجوزتين تقطنان غرفتين اثنتين فقط، هما الغرفة 309 و223. فيما باقي الغرف الكثيرة صارت فارغة تماماً، وتتحول تدريجياً إلى مكان لتخزين العينات.
الأحداث تدور بشكل أساسي بين ديشيمارو والراوية موظفة الاستقبال فيما تبقى الشخصيات القليلة الأخرى عابرة، وكأنما تأتي لترفد حكاية هذا الثنائي الذي سيرتبط، بمضي الوقت، بعلاقة تزيد من غموض القصة بدل أن تجلي حقيقة الأحداث.
تروي موظفة الاستقبال التي لن نعرف لها اسما رغم دورها المحوري، أنها انتقلت للعمل في المختبر منذ عام، وجاء هذا بعد أن تركت عملها السابق في معمل للمشروبات الغازية، بسبب حادث تعرضت له حيث فقدت قطعة لحم من إصبعها. «وفي الواقع تبين أن طرف إصبعي المسحوق بدواليب الآلة جرفه سيل المادة المطهرة. لم أعد أستطيع من الآن فصاعدا أن أشرب أي رشفة من مشروب غازي، لأنني صرت أشعر تحت لساني بقطعة اللحم الطرية من بنصري، وبسبب هذا الحادث توقفت عن احتساء المشروبات الغازية والعمل في المصنع».
حادث مفصلي بدّل حياة هذه الفتاة الصغيرة ذات الأحد عشر ربيعاً وجعلها تهيم بلا هدف، فهي بلا أهل أو أصدقاء، لكنها وجدت صدفة هذا المختبر، وتلتقي بصاحبه ديشيمارو وتأخذ حياتها منعطفاً يصعب فهمه، ولن يجد القارئ سبيلاً لحل ألغازه. كل شيء في هذه الرواية القصيرة التي لا تتجاوز 95 صفحة يبدو مستغلقاً، فلا يفهم لماذا يأتي الزبائن إلى المختبر لحفظ أشياء من نوع الفطريات، الحشرات، النباتات، حلي شعر، أزرار أكمام، علب مساحيق تجميل، أو مدونة مقطوعة موسيقية. كل هذا ينظم ويرتب ويحمل أرقاماً ويدون في سجلات، وتقوم عاملة الاستقبال وحدها مع ديشيمارو وهو الشخص الوحيد الذي نعرف اسمه في كل الرواية، بكل المهمات. هي تستقبل الزبائن وترتب الملفات وتحضر العينات، وهو يقوم بالأشغال التنفيذية الأخيرة بالتعاون معها. السيدتان الكبيرتان في السن اللتان لا تزالان تقيمان في المبنى ترحل إحداهما، وتقام جنازتها دلالة على أن وجودهما نفسه ليس إلا رمزاً للفراغ البشري الذي يحل في المكان.
العلاقة الحسية التي ستربط ديشيمارو بموظفته الصغيرة لن تزيد القصة إلا غرابة، لن نعرف أبدا لماذا تستسلم له، هل أحبته؟ هل أذعنت فقط؟ ولماذا اختار الحمام تحديداً والبانيو بشكل خاص مكاناً دائماً لهذا اللقاء، على اتساع المبنى المؤلف من 430 غرفة، خلت من قاطناتها الشابات؟ ما الذي يلفت هذا الرجل المليء بالأسرار إلى حذاء موظفته القديم، ولماذا اختار أن يلبسها حذاء أسود جديداً يطلب منها أن لا تقلعه أبدا، حتى يصبح وكأنه جزء من جسدها؟ ثم ما الذي يقصده ماسح الأحذية الذي يزور المختبر حين يلفت نظرها إلى خصوصيات هذا الحذاء الذي لم يسبق أن رأى مثيلاً له من قبل إلا مرة واحدة؟ وهل قامت علاقة بين صاحب المختبر وإحدى زبوناته التي سيسوقها وحدها إلى مكان لم يسبق لموظفته أن ولجته أبداً؟ يخيل للقارئ أنه بمرور الصفحات سيجد إجابات على كل هذه الأسئلة التي تتراكم في ذهنه، لكنه يفاجأ بأنه يصل إلى الصفحة الأخيرة وقد ملأه العطش إلى معرفة الكثير حول الرجل الغامض الذي يقود اللعبة فيما الموظفة مستسلمة حد الخنوع.
تسأل نفسك حين تصل إلى النهاية، ما الذي يصنع شهرة يوكو أوغاوا، وما المتعة التي تحصدها من قراءة رواية من هذا النوع الذي يعمق إحساسك بالنقص في معرفة الشخصيات بدل أن تشعر بأنك تطور إدراكك بها.
كتابة تكاد تكون عكس الوصفات التقليدية الروائية، لا تبدأ بمفاجأة، أو جملة جاذبة. تسير الأحداث باردة، بطيئة، والشخصيات خلو من المشاعر، تتحرك كأنها روبوتات مبرمجة سلفاً، حتى اللحظات التي يقترض أنها الأكثر سخونة تكتبها أوغاوا، وكأنما لتفرغها قصداً من شحناتها الشعورية المكهربة. نحن لا نعرف شيئا عن خلفيات الموظفة أو حياتها السابقة ولا تبذل الروائية جهداً لتعرفنا بها، كما أننا لا نعرف عن ديشيمارو إلا ما يفعله خلال تأدية دوره في القصة، لا عودة إلى الوراء، ولا استباق لما سيأتي. إنه الحاضر تصفه أوغاوا بمنتهى البراعة والبساطة. هكذا يسير القارئ مع النص ليبقى على وتيرة هادئة لا يراد لقلبه أن يخفق أو لفكره أن يسبقه إلى تصور أو تكهن.
هي كتابة من صنف له خصائصه الذاتية، فالنص مغلق على أحداثه، محدود في الزمن وفي المكان الذي يتحرك فيه صاحب المختبر وموظفته، وهما نفسهما يتحركان داخل المبنى، ونادراً ما نرى الموظفة تخرج لتتقاطع مع أحدهم خارج المختبر، مثل حالتها حين التقت ماسح الأحذية، لتعيد فتح الصفحات على قصة حذائها الأسود وأسراره التي لا تنتهي. وهو نص يقول في كلمات ما يمكن أن يقوله غيره في صفحات، يخيل إليك أن الكاتبة أعادت القراءة لتحذف كل جملة أو ربما كلمة زائدة لا تصب في صلب الحكاية. تروي الموظفة ما حدث لحظة وضعت الحذاء الجديد في رجليها، ما الذي قاله لها ديشيمارو: «أتمنى بعد الآن أن تنتعليه كل يوم، قال لي عند الخطوة الرابعة عشرة من الدورة الثالثة. جملة لا تكتبها إلا أوغاوا» مختصرة بسطرين ما كان يمكن أن يكتب حوله صفحة كاملة أو صفحات.
وصف ميكروسكوبي يركز على الراهن وعلى بقعة محدودة جداً لا يغادرها، بقدر ما يعنى بالذاكرة. فكل زبائن المختبر هم من أولئك الذين يخشون انفلات لحظة من بين أيديهم، لكنهم في الوقت نفسه لا يريدون معانقتها طوال الوقت، يودعونها ديشيمارو ويذهبون، وهو يكتفي بأن يحفظها كما هي أو يلجأ لوسيلة علمية حين تكون عرضة للتلف. هي رواية تعتمد إدخالنا إلى مناخ الثنائي من خلال متابعة ما يجري، وفي هذه الأجواء يصبح الزمن جزءاً رئيسياً لجعلنا نعيش الحكاية، فالسماء حين تكفهر، أو حين تمطر، أو لحظة تغرق قاعة الاستقبال في الظلمة، أو يدخل الضوء من النافذة، أو تتحرك عقارب الساعة هي من العناصر الرئيسية. كذلك حال الأصوات، فثمة تركيز على صوت الحذاء، ودقة في توصيف لحن معزوفة موسيقية تؤديها على البيانو العجوز التي سترحل بعد ذلك. وبينما يكون القارئ مشغولاً بانتظار نهاية تكشف له ظلاً من ظلال العلاقة بين ديشيمارو وموظفته لأنهما العمود الفقري للقصة، يكتشف أن الروائية ليس هذا هو مقصدها ولا اهتمامها، وأن ما صب اهتمامه عليه طوال القراءة، ليس ما تريد إيصاله وإنما هي مشغولة بخيط آخر نسجته بعناية هو خيط الذاكرة حيث ستنتهي الحكاية لا بزواج بين البطلين ولا بخلاف أو جدال، وإنما بلجوء الراوية إلى الاستفادة من وجودها في هذا المختبر الذي يبدو أنه الشخصية الرئيسية لتحفظ هناك الجزء الأهم مما في ذاكرتها من ألم، كما يفعل الزبائن الآخرون.
كتابة استفزازية، بالنسبة لقارئ عربي، هي هذه الروايات اليابانية، ببرودها ودقتها، واهتمامها بالمهمل وجعله أساساً وهيكلاً رئيسياً. إنها الروايات التي تقنعنا أننا ربما نعنى بالهامش بينما الجوهر في مكان آخر.