كان التحنيط في مصر القديمة عملاً مقدساً يهدف إلى حفظ الجسد ليتمكن من الانتقال للأبدية في العالم الآخر كما هو معروف عن الحضارة المصرية القديمة، وتناقل المحنطون سر التحنيط شفهياً، وبالممارسة من عصر لآخر، حيث وجد القليل جداً من المخطوطات والأدلة المكتوبة التي تحمل تفاصيل عن عملية التحنيط.
وأخيراً، تمكنت باحثة دنماركية من جامعة كوبنهاغن من كشف تفاصيل إحدى البرديات، التي يعود تاريخها إلى 3500 سنة، حيث ترجع تقريباً إلى عام 1450 قبل الميلاد، وتعد أقدم دليل مكتوب على عملية التحنيط، حتى الآن.
البردية التي يدور حولها الكشف الأخير تسمى "اللوفر كارلسبرغ" (Papyrus Luvre-Carlsberg) بسبب وجود جزء منها في متحف اللوفر بفرنسا وجزء بمتحف كارلسبرغ بالدنمارك، بينما هناك أجزاء أخرى مفقودة منها لا يعرف مكانها حتى الآن، ويُرجح أن طول البردية يصل إلى نحو 6 أمتار، وجرت الدراسة بالتعاون بين المتحفين بهدف محاولة استكشاف محتوى البردية والربط بين النص المكتوب في كل جزء للوصول إلى ما قد يثري علم المصريات لتكون النتيجة اكتشاف أقدم نص موثق عن سر التحنيط في مصر القديمة.
كانت "صوفي شيدت"، الباحثة الدنماركية صاحبة الاكتشاف قالت في تصريحات نشرها موقع "eurekalert"، المتخصص في نشر نتائج الأبحاث العلمية وتديره الجمعية الأميركية لتقدم العلوم (AAAS)، "البردية الطبية كتبها المحنطون، وتُرك العديد من الأوصاف لتقنياته موجهة لنظرائهم الذين سيأتون في عصور لاحقة. هي بالأساس للمتخصصين في هذا المجال، وتهتم بشكل أساس بالأدوية العشبية وعلاج تورمات الجلد واستخدام الضمادات".
وأوضحت، "من المعلومات الجديدة المثيرة الموجودة في النص بعض الإجراءات المتعلقة بتحنيط وجه الميت حيث تصف المكونات المستخدمة فيها مثل مواد عطرية نباتية وأخرى مضادة للبكتيريا، إضافة إلى استخدام الكتان الأحمر لتغطية وجه المتوفى لحفظه ووقايته من أي ضرر. ويتوافق هذا الكلام مع فحوصات ودراسات سابقة أجراها علماء آثار مصريون على مومياوات تعود إلى هذه الحقبة وُجدت محنطة ومغطاة باللفائف بشكل يتوافق مع ما ورد في البردية".
وأظهرت الباحثة أن البردية تقسم عملية التحنيط إلى أربعة أقسام رئيسة؛ تمثل كل منها فترة زمنية محددة، وكل من هذه الفترات تستمر لأربعة أيام، حيث يعمل المحنطون على المومياء كل 4 أيام خلال مدة تحنيط الجسد التي تصل مدتها كاملة إلى 40 يوماً، وفي الفترات الفاصلة بين الأيام الأربعة، كان الجسم يغطى بقطع من القماش وطبقة من القش الممزوج بالعطريات لإبعاد الحشرات، ويتخلل هذه الفترات بعض الطقوس والمواكب الاحتفالية التي تهدف لاستعادة السلامة الجسدية للمتوفى".
بردية اللوفر كارلسبرغ
بُحث على أجزاء من بردية توجد كل منها في بلد مختلف، وهناك أجزاء أخرى منها مفقودة حتى الآن فكيف يمكن حدوث هذا من الأساس، وكيف يمكن أن تتحول البردية إلى قطع تنتشر في بلدان مختلفة؟ يقول حسين عبد البصير، المتخصص في علم المصريات، "تتعرض مثل هذه البرديات، موضع البحث، خصوصاً الكبيرة منها؛ لعوامل مختلفة تجعلها تتمزق، وأحياناً كانت تقع في يد من لا يقدر قيمتها فيقوم بتمزيقها إلى نصفين أو أكثر، وتباع أو تهرب أو يتم تداولها مع أكثر من شخص أو جهة ليستقر كل جزء في مكان في نهاية الأمر. وربما هذا ما حدث بشأن هذه البردية التي يعرض جزء منها في اللوفر، والآخر في متحف كارلسبرغ".
يضيف، "فكرة التعاون بين المتاحف لدراسة مثل هذه القطع ومحاولة استخلاص نتائج ومعلومات تثري علم المصريات بشكل عام، هو جهد ذو قيمة كبيرة ونتائجه ستضيف كثيراً، وبالطبع ما أضافته البردية من تفاصيل عن المواد المستخدمة في التحنيط وإجراءات العملية ذاتها خلال هذه الحقبة إضافة كبيرة لهذا الموضوع".
أقدم بردية تحمل سر التحنيط
التحنيط أحد أهم أسرار الحضارة المصرية القديمة، وواحد من أهم الموضوعات التي يدرسها علماء الآثار والمصريات، عن أهم المصادر التي يعتمد عليها لكشف أسرار التحنيط عند المصريين القدماء يشير عبد البصير، "تحمل هذه البردية قيمة كبيرة لأن هناك القليل جداً من المخطوطات التي تتحدث عن سر التحنيط، وتعود أهميتها أيضاً إلى العصر الذي تنتمي إليه، فهي حتى الآن أقدم دليل موثق يقدم معلومات عن العملية، فبشكل عام المعلومات المكتشفة من قبل علماء الآثار عن التحنيط جاء معظمها من الاكتشافات الأثرية للورش التي كانت تتم فيها عملية التحنيط وتحليل بقايا المواد الموجودة فيها والتعرف عليها".
يوضح، "اعتمد العلماء أيضاً على دراسة المناظر الموجودة على المعابد والمقابر التي تصور المحنطين أثناء القيام بالعملية التي انتقلت فيها الخبرات بالممارسة من جيل لآخر ومن عصر لعصر، إضافة لوجود مؤرخين مثل هيرودوت وصفوا عملية التحنيط في مصر القديمة، وأصبحت كتاباتهم مرجعاً يستند إليه، فالأدلة المكتوبة التي تحمل ما يمكن أن نطلق عليه وصفة محددة للتحنيط شبه نادرة".
اختلاف عملية التحنيط باختلاف العصر
تعود البردية "اللوفر– كارلسبرغ" إلى 3500 سنة إلا أن عملية التحنيط ذاتها كان متعارف عليها قبل هذا العصر واستمرت فترة طويلة من بعده فما مدى الاختلاف في عملية التحنيط من عصر لآخر. يذكر الأثري المصري، "أن مبادئ عملية التحنيط ثابتة، والغرض منها الحفاظ على الجسد حتى تستطيع الروح أن تتعرف عليه ليحيا في العالم الآخر حياة الأبدية، وفقاً لمعتقدات مصر القديمة. ولكن مع اختلاف العصر والتطور يحدث بعض الاختلاف ليس في العملية ذاتها، بل في أمور مثل تغير شكل اللفائف التي توضع على الجسد، أو إضافة أشياء مثل التمائم أو زيادة فصول على تعاويذ كتاب الموتى الذي يوضع مع الجثمان".
يضيف، "عملية التحنيط في مصر استمرت في عصور لاحقة، وكان لكل عصر سمات مختلفة حتى في شكل المقابر، فهناك اختلاف ما بين الحقب المختلفة، إلا أن عملية التحنيط كانت العامل المشترك والأساس في تاريخ مصر القديمة".