اعتمد متياس في الكتاب الصادر عن سلسلة "عالم المعرفة" من ترجمته في الدفاع عن هذه الأطروحة على افتراض أن الصداقة، فعلا، حاجة إنسانية، لأنه إذا كان واجب الفيلسوف التنظير حول الحياة الأخلاقية، وإذا كانت غاية النظرية هي اقتراح مبدأ للتميز، وإذا كان جوهر الحاجة الأخلاقية يكمن في تلبية الحاجات الإنسانية، وإذا كانت الصداقة حاجة إنسانية، فسوف يتعين الاستنتاج بالضرورة أنه لا يمكن للنظرية الأخلاقية أن تكون وافية إذا لم تتضمن الصداقة كقيمة مركزية في تحليل الحياة السعيدة أو الخير الأسمى.
وقال "إذا ألقينا نظرة متعمقة على تاريخ الفلسفة من القرن الرابع إلى القرن العشرين، بحثا عن موقع الصداقة في النظرية الأخلاقية، فسوف نكتشف غيابا لافتا، بل استبعادا، للتنظير حول مفهوم الصداقة، ويبدو أن هذا النوع من التنظير توقف في نهاية المرحلة الرواقية وهذا غياب محير لأن دراسة نقدية لديناميات الطبيعة الإنسانية والحياة الإنسانية، كما تعاشان في الحاضر وكما عيشتا من قبل، سوف تبين بكل وضوح، أنه لا يمكن لأي نظرية أخلاقية أن تكون وافية إن لم تنظر في الصداقة كقيمة أخلاقية مركزية، أو إن لم تقر بأنها عنصر جوهري في الحياة الصالحة. ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يحقق الكائن الإنساني هذا النوع من الحياة أو أن يسعى وراء غايات جديرة بالإنسانية من دون تنمية الصداقة والتمتع بثمارها.
وأفترض بهذا القول أن وظيفة النظرية الأخلاقية، بغض النظر عما إذا كانت علمية أو فلسفية أو لاهوتية، هي أن تفسر ناحية أو جزءا مهما أو إشكاليا في الواقع الإنساني أو الطبيعي أو الإلهي. ولكي تقوم النظرية بهذه الوظيفة بصورة وافية يجب أن توسع فهمنا لهذا الوجه من وجوه الحياة الإنسانية أو هذا العنصر من عناصرها. وتستطيع النظرية القيام بهذا الواجب عندما تعرف وتحلل مكوناته وتشرح علاقات مكوناته بعضها مع بعض، وكيف يقوم كل مكون من هذه المكونات بوظيفته. وبالتالي، فعلى النظرية الأخلاقية أن تبرر هذه المعرفة وتصوغ، على أفضل وجه، التصورات الأساسية التي يمكن أن تعبر عن فهمنا لميزات هذا الجانب أو هذا العنصر.
وتساءل كيف يمكن لهذه النظرية أن تنجح في تفسير أي وجه من وجوه الواقع أو أي مشكلة نواجهها في مسيرة حياتنا عندما تهمل أي عنصر من العناصر المكونة له؟ وأضاف "تفسيرنا لظاهرة المطر سوف يكون غير واف إذا لم نأخذ بعين الاعتبار عامل الجاذبية أو الحرارة أو الضغط الجوي، وتفسيرنا لظاهرة الحرب أيضا سيكون غير واف إذا لم نأخذ بعين الاعتبار عامل الرغبة في الهيمنة أو الجاهزية العسكرية. وبالمثل، ستكون النظرية الأخلاقية غير وافية إذا لم تأخذ بعين الاعتبار تجربة الصداقة والدور الذي تؤديه في حياة الإنسان. نعم، الصداقة نمط أو نوع من التجربة الإنسانية، وهي، بالذات، نمط سلوكي".
وسعى متياس إلى الشرح بالتفصيل: كيف أن الصداقة ليست علاقة سطحية، بل علاقة عميقة وجوهرية ومترسخة في صلب الطبيعة الإنسانية كحاجة أساسية، وكيف أنها تمثل أرقى أنماط الحياة الاجتماعية، لأنها تؤدي دورا حيويا في حياة الأصدقاء وطريقة تفكيرهم وشعورهم وأفعالهم، أي في طريقة تصميم وعيش حياتهم. وأكد أنه بإمكان الصداقة أن تكون مصدرا للبهجة واللذة وحافزا للعمل المبدع والمعونة النفسية والمادية، وملجأ في أوقات الضيق.
وأشار إلى أن الصداقة مصدر مهم للنمو والتطور الأخلاقي. الحياة الأخلاقية جزء لا يتجزأ من الحياة الإنسانية عامة. غير أن غياب الصداقة كقيمة أخلاقية مركزية عن النظريات التي سادت الفكر الأخلاقي من القرن الرابع إلى يومنا هذا يظهر تجاهل هذه الحقيقة الأولية.
ويتضمن هذا الغياب أن تجربة الصداقة ليست لها علاقة، أو لا تؤدي دورا في السعي وراء الحياة الأخلاقية، لكن علينا أن نتذكر أن كل قيمة أخلاقية تستلزم، بحكم الضرورة، نوعا من الخبرة الأخلاقية – مثلا، خبرة العدالة أو المحبة أو الصدق أو الشجاعة أو العفة أو احترام الوعد أو التواضع.
القيمة الأخلاقية مبدأ الفعل الذي يتناسب مع سلوك معين، لأنها تشكل مخطط أو بنية الفعل وتعطيه جوهره ومعناه، وهي التي تعطي الفعل صفته الأخلاقية. مثلا، تحقيق قيمة العدالة في الفعل هي التي تحوله إلى فعل عادل. علاوة على ذلك، كل قيمة أخلاقية قابلة لأن تصبح قاعدة أخلاقية: كن عادلا! أحب أخاك الإنسان! كن صادقا! قل الحقيقة! القاعدة هي توجيه ملزم للسلوك وفقا لمتطلبات القيمة الأخلاقية. والقيمة الأخلاقية تكتسب صفتها كقيمة لأنها تعبر عن نوع مهم، أو ذي قيمة، من الأفعال.
ورأى متياس أن هذه الأهمية أو الجدارة هي التي تضفي على القاعدة صفتها التوجيهية، وهي أيضا مصدر الإشباع الذي نستمده من السعي وراء القيم في حياتنا. غير أن الصداقة ليست نوعا من التجربة فحسب، بل نوع من التجربة الأخلاقية أيضا. لهذا، فإن تطـور الصداقـة يتضمــن: أولا وجــود نوع من الخــبرة. وثانيا وجود نوع من القيم الأخلاقية. إن الصداقة عنصر جوهري في الحياة الأخلاقية وشرط من شروطها. لهذا السبب ليس في مقدور أي نظرية أخلاقية أن تهمشها أو تتجاهلها في التنظير للحياة الأخلاقية.
ولفت إلى أن القول بغياب الصداقة عن التنظير للحياة الأخلاقية، في الأنظمة الفلسفية الرئيسية خلال القرون الستة عشر الماضية، لا يعني غياب كتابات عن الصداقة. والعكس هو الصحيح، فقد ترك لنا عدد لا بأس به من الفلاسفة واللاهوتيين وكتاب المقالات كثيرا من المناقشات والأوراق والمقالات، وحتى بعض الكتب، عن الصداقة، والعديد منها مثير للاهتمام وممتلئ بالبصيرة والإفادة، غير أنها لا تعالج الصداقة كقيمة أخلاقية مركزية ولا تعتبرها شرطا للحياة الأخلاقية.
وسواء في العصر الوسيط أو الحديث أو المعاصر، فقد اعتبرها اللاهوتيون قيمة أو فكرة مساعدة، مثلا معظم اللاهوتيين الذين كتبوا عنها لم ينظروا فيها، ولم يحللوها كقيمة أخلاقية مركزية، بل كجزء من تحليلهم لتصور المحبة المسيحية وطرحت تحليلاتهم، في معظم الأحيان، في صيغة مقارنة بين الصداقة باعتبارها هوى والمحبة المسيحية، وغاية المقارنة لم تكن توضيح فكرة وأهمية الصداقة كقيمة مركزية، بل توضيح طبيعة وأهمية المحبة المسيحية في الحياة الصالحة أو الدينية. هذا ما نراه في أعمال القديس أوغسطين والقديس توما الأكويني وكيركغارد وميلاندر إذا أردنا ذكر بعض أسماء اللاهوتيين.
وأضاف متياس إذا ألقينا نظرة فاحصة على مناقشات اللاهوتيين من القديس أوغسطين إلى ميلاندر، فسوف نكتشف أن أيا من هذه المناقشات لم يسهم في زيادة فهمنا للصداقة كقيمة أخلاقية، بأكثر من مناقشات الفلاسفة القدماء.
والشيء المثير للاهتمام، بصورة خاصة، هو أن عددا كبيرا من اللاهوتيين استبعدوا مفهوم الصداقة من مناقشاتهم التي حللت الحياة الأخلاقية. علاوة على ذلك، لم يسهم فلاسفة العصر الحديث في زيادة فهمنا للصداقة كقيمة أخلاقية مركزية، لأنهم أيضا أبعدوها عن تحليلهم للحياة الأخلاقية. لقد رفض الفلاسفة الذين سادوا هذا العصر من هوبز إلى ميل معالجة الصداقة كقيمة أخلاقية مركزية، فإنهم لم يعتبروها عنصرا مقوما للحياة الأخلاقية.
لقد ناقش فلاسفة كهيوم وميل البعد النفسي للطبيعة الإنسانية وحللوا القيم الإنسانية، غير أنهم لم يبحثوا الدور الذي تؤديه الصداقة، أو يمكن أن تؤديه، في الحياة الأخلاقية.
وكما فعل اللاهوتيون، ناقش بعض الفلاسفة وكتاب المقالات، وبينهم على سبيل المثال بيكون ومونتاني واسبينوزا وإمرسون وكانت ونيتشه. فكرة الصداقة، غير أنهم لم يكن هدفهم تحليلها كقيمة مركزية بل التشديد على أهميتها في الحياة العملية. وفي الواقع كان اهتمامهم بهذه القيمة عمليا، لا نظريا. وتمحورت أفكارهم، ماعدا أفكار نيتشه واسبينوزا، حول بصيرة الفلاسفة اليونان والرومان القدماء، لكنهم، فعليا، استبعدوا مفهوم الصداقة، وأيضا مفهوم المحبة، من الحياة الأخلاقية. نعم، تطرق فلاسفة بارزون مثل هيغل وشوبنهاور ونيتشه إلى تطور المحبة، لكنهم فعلوا ذلك في سياق تحليلهم للأسرة ووحدة الأسرة والتفاؤل والتناسق ودوافع الحياة والمشاعر الغرامية. لكن، هل يمكن لتحليل الصداقة أن يكون وافيا أو شاملا إذا لم ينطلق من فهم معقول للمحبة كعلاقة إنسانية أساسية؟
وقال متياس بما أن الصداقة مقوم جوهري، بل ربما شرط من شروط الحياة الأخلاقية، فإنه لا يجوز للفلاسفة إهمال هذه القيمة الأخلاقية، ولا يجوز لهم إهمال وجه من وجوه التجربة الإنسانية مادام جوهريا للحياة الإنسانية. قد نجادل بأن الحياة الأخلاقية تتم بالعيش وفقا للإرادة الإلهية، أو وفقا للشعور بالواجب، أو وفقا لمبدأ الخير العام، أو وفقا لتصور الفرد لمعنى الحياة الخيرة من دون الأخذ بعين الاعتبار ما يقوله أو يفكر أو يشعر به الآخرون أو، بعد ذلك كله، وفقا لمعايير المجتمع. وبالتالي، فقد نجادل بأن وظيفة النظرية الأخلاقية ليست تحليل التجربة أو السلوك الأخلاقي، بل مجرد توضيح التصورات الأخلاقية واكتشاف أفضل الطرق لتبرير المبادئ والأحكام الأخلاقية. نعم قد نجادل وفقا لأي من هذه الطرق، ووفقا لطرق أخرى، كما فعل اللاهوتيون وعلماء الاجتماع والفلاسفة في العصور الوسطى والحديثة والمعاصرة. غير أن جدلياتهم لم تستلزم ولم تبرر استبعاد الصداقة من التنظير الأخلاقي.
وجادل متياس بأن الصداقة مقوم من مقومات الحياة الصالحة، لذا يجب أن تعامل كقيمة أخلاقية في التنظير الأخلاقي. وقامت حجته على أربع خطوات.
أولا شرح مفهوم تحول النموذج الأخلاقي. هنا أوضح معنى النموذج و"النموذج الثقافي"، لأن تصور النموذج الثقافي يتضمن تصور النموذج الأخلاقي. وبعد ذلك فسر كيف يتحول النموذج، بغض النظر عما إذا كان ثقافيا أو أخلاقيا. ثانيا، فعلى الرغم من أنه قدم باستمرار أمثلة توضح معنى "النموذج" و"تحول النموذج" والعلاقة بين هذين المفهومين، إلا أنه ناقش بالتفصيل الثقافتين الهللينية والهللنستية كمثالين على تحول النموذجين الثقافي والأخلاقي. وقد احتار هاتين الثقافتين لسببين: الأول لأنهما متصلتان كل منهما بالأخرى. والثاني لأنهما متصلتان بالعصور الوسطى والحديثة.
وأوضح خلال مناقشة هاتين الثقافتين مفهوم النموذج وتحول النموذج، الأمر الذي عزّز مصداقية أطروحته.
حيث سعى إلى البرهنة على أن النموذج الثقافي لمجتمع معين يحدد إلى حد كبير النموذج الأخلاقي، أي المعتقدات والقيم التي تشكل بنية النموذج الثقافي المحددة لتصور الجماعة للخير الأسمى وبالتالي للقيم التي تنبثق عنه.
وهكذا أثبت متياس صحة أطروحته التي تقول "إن الصداقة قيمة أخلاقية مركزية، لأنه إذا كانت الصداقة حاجة إنسانية أساسية، وإذا كان مفهوم الخير الأسمى عند الجماعة يتضمن هذه الحاجة، وإذا كان هذا المفهوم متجذرا في نموذجها الأخلاقي، وإذا كان مصدر القيم الأخلاقية للجماعة، فلا يمكن للفلاسفة، بغض النظر عن نزعاتهم الفلسفية أو الدينية أو الأيديولوجية، استبعاد الصداقة كقيمة أخلاقية مركزية من نظرياتهم الأخلاقية. وعلى خلاف فلاسفة العصور الوسطى والحديثة، لم يتخل فلاسفة العصور الهللينية والهللنستية عن ولائهم لنماذجهم الأخلاقية عندما نظروا في طبيعة الحياة الأخلاقية، فأقروا بأن الصداقة مقوم من مقومات الحياة الأخلاقية.
وخلال شرحه: كيف يمكن للنموذج الثقافي أن يقرر النموذج الأخلاقي، أي كيف يمكن للرؤية الأخلاقية التي هي أساس النظرية الأخلاقية، أن تكون منغرزة في النموذج الثقافي. تساءل متياس لماذا تردد فلاسفة هذه العصور في الاعتراف بالصداقة كقيمة أخلاقية مركزية في التنظير الأخلاقي؟
وقال "إن سبب هذا التردد هو أنهم عرفوا وظيفة النظرية الأخلاقية على نحو يناسب اهتماماتهم الدينية أو الفلسفية أو الاجتماعية. وعلى عكس الفلاسفة القدماء الذين اعتقدوا أن هذه الوظيفة تفسيرية ومعيارية في آن واحد، فقد اعتقدوا أنها معيارية بالمقام الأول، بمعنى أن وظيفة النظرية هي فرض وتبرير صياغة معينة للمبدأ الأخلاقي الأعلى.
وبغض النظر عما إذا كان تبني هذه المهمة قد استلهم الإصلاح الاجتماعي أو الحقيقة المنزلة أو رؤية فلسفية معينة، فهؤلاء الفلاسفة تجاهلوا أن الصداقة حاجة إنسانية أساسية، وأنها تكمن في الرؤية الأخلاقية للنموذج الأخلاقي. هذا التجاهل غير مقبول. إذ كيف يمكن للنظرية الأخلاقية، كنظرية، أن تهمش، أو تهمل، مطلبا جوهريا للطبيعة الإنسانية؟