"الفراشات الصُّفر والمستبدّون": الأدب اللاتيني بفصوله المتعدّدة
الاربعاء 14 ابريل 2021 الساعة 00:52
العربي الجديد * جعفر العلوني

قبل عامين، نشرَ تشافي آين كتابَه الشهير "سنوات الانفجار تلك: ماركيز، يوسا والأصدقاء الذين غيّروا كلَّ شيء". حينها وُصف الكتاب بأنَّه تناول ظاهرة الانفجار، "البوم"، بشكلٍ كامل، مع أنَّه، في حقيقة الأمر، اقتصر محتواه على مجموعة الأصدقاء الذين أسَّسوا لإحدى الحركات السرديَّة الأكثر لفتاً وقوَّةً في العالم الأدبيّ. وكان الكتاب، كما يعرف قرَّاؤه، ثمرة العديد من المقابلات مع مؤسّسي تلك الحركة الأدبيَّة، من دون إهمال الدور الكبير الذي لعبته الوكيلة الأدبيَّة كارمن بالثييس. اليوم، مع صدور كتاب "الفراشات الصُّفر والسادة المستبدُّون: أميركا اللاتينيَّة تروي تاريخها" (منشورات "ديباتي"، 2021) لمؤلِّفته الألمانيَّة ميتشي شتراوسفيلد، المتخصِّصة في دراسة أدب أميركا اللاتينيَّة، أصبح كتاب تشافي تفصيلاً صغيراً من تفاصيل كتاب الباحثة الألمانيَّة الشامل، ولا سيَّما أنَّها تتعامل مع مرحلة الانفجار الأدبيِّ على أنَّها مجرَّد فصل من فصول أدب القارّة.

يبدأ الكتاب مع "الاكتشاف" (الغزو الإسباني)، أي في تشرين الأوّل/ أكتوبر من عام 1492، عندما كتب كريستوفر كولومبوس إلى البابا ألكسندر السادس أنَّ لديه انطباعاً بأنَّ "هذه الأماكن هي الجنَّة على الأرض". ثمَّ بعد ذلك تدرسُ الباحثةُ المؤرِّخين الرئيسين: برنال دياز ديل كاستيلو في المكسيك، وإنكا غارسيلاسو دي لا فيغا من بيرو، من دون أن تنسى تدوين دهشة الإسبان أمام القصور والساحات والطرق في الوقت نفسه الذي اكتشفوا فيه القبائل البدائيَّة والحضارات الراقية ذات الهندسة المعماريَّة الرائعة، علاوةً على مدن البحيرات. 

يقفز الكتاب، بعد ذلك، قفزة السنوات الاستعماريَّة ــ من دون التوقُّف عن الاستشهاد، بطبيعة الحال، بالراهبة خوانا إينيس دي لا كروز، مريدة الشاعر الإسبانيِّ غونغور ــ ولا سيِّما تلك المرحلة التي حُظرت فيها الروايات في أميركا، لسبب غامض لا يريد أحدٌ أن يكشفه حتَّى الآن. لم ينجح الحظر في ما يتعلَّق باستيراد الكتب، فالتهريب كان في أوجه (يقال إنَّ النسخ الأولى من "دون كيخوته" لسيرفانتس وصلت إلى مدينة كالاو البيروفيَّة مخبَّأة في دنان النبيذ)، لكنَّه نجح في منع إصدار الكتاب. هكذا كانت رواية "مغامرات بريكيو سارينتو"، للكاتب المكسيكيِّ خوسيه خواكين فيرنانديث دي ليزارد، أوّل رواية تُطبع في أميركا عام 1816.

لا اختلاف جوهرياً، عند المؤلّفة، بين آداب بلدان القارة

يشتدُّ الكتاب ويصبح أكثر إثارةً مع مرور الصفحات والسنين، وتحديداً في القرنين التاسع عشر والعشرين، مع استقلال المستعمرات وبدء فترة الديكتاتوريَّات العسكريَّة، حيث تدخل دول أميركا اللاتينيَّة كلّها تقريباً ــ الاستثناءات يمكن عدُّها على أصابع اليد الواحدة ــ في دوَّامة القتل والعنف والنهب وتدمير الجمهوريَّات الجديدة، لتخون بذلك إرث المحرِّر بوليفار. إنَّها اللحظة المناسبة كي يظهر فيها الشعر والروايات بكثافة، كثمرة أدبيَّة للحرب وللمشكلات الاجتماعيَّة المتعدِّدة. تصرُّ ميتشي شتراوسفيلد، على نحوٍ مقنع، على أنَّ هذا الأدب سيملأ الفجوات التي خلَّفها التاريخ، علاوةً على تمجيده وتنويعه إلى حدٍّ لا تستطيع الحقائق التاريخيَّة العظيمة سرد تفاصيله: المعاناة الجائرة للضحايا، القسوة التي ستُترجم من خلالها الانقسامات الاجتماعيَّة الهائلة للفقراء، الطريقة التي تحمي بها الولايات المتَّحدة الشركات في أميركا الشماليَّة عن طريق رشوة أو ضرب الحكومات التي شرعت في عمليَّات الإصلاح الزراعيِّ والتعليم العامّ وتكافؤ الفرص.

تزداد إثارة الكتاب عندما تشرح مؤلِّفته ــ بلغة دقيقة وسهلة ــ الطريقة التي أصيب فيها الأدب بالعدوى من المشكلات الاجتماعيَّة، وراح ينقلها، تارةً مكثفةً، وأخرى على نحوٍ أخفّ، انطلاقاً من الواقع الحيِّ؛ نعم، الواقع الحيّ، حتَّى لو كنَّا في مدينة الموتى، مثل ما هو الحال عند خوان رولفو في "بيدرو بارامو"، أو في مشهد بلد دمَّره دكتاتور مجنون ومثقَّف ومتعطِّش للدماء، مثل الدكتور فرانسيا في روايات أوغوستو روا باستوس. ضمن هذا السياق، توثِّق شتراوسفيلد حالة المرأة والأدب كمكان لممارسة النضال من أجل حقوقها وتحريرها. "لم تكن النساء حاضرات، لا في أميركا ولا في أجزاء أخرى من العالم. لقد كُتب عليهنَّ أن يكنَّ شاعرات أو قاصَّات. وقد شكَّل غيابهنَّ خسارة كبيرة لفترة الانفجار. لقد كان زمناً مختلفاً. وظلَّ الأمر على ما هو عليه إلى أن ظهرت إيزابيل ألليندي بروايتها 'بيت الأرواح'، فكان التغيير في الموقف والسلوك، تماماً كما يحدث اليوم مع كاتبات مثل أنجليس ماستريتا أو كلوديا بينيرو"، تقول الكاتبة الألمانية.

عمل زاخر بتجارب عاشتها مع عدد من كبار كتّاب القارّة

ما يلفت الانتباه والاهتمام، في كتاب الباحثة الألمانيَّة، تعاملُها مع أدب تلك القارَّة الشاسعة على أنَّه كلٌّ متكامل ومتنوّعٌ، لكنَّه، في الوقت نفسه، كلٌّ عضويٌّ، فلا اختلافات، من حيث الجوهر، لديها بين آداب الإكوادور وبيرو وبوليفيا، أو بين الأرجنتين والأوروغواي. أمَّا الشيء الآخر الذي تتوقَّف عنده مطوَّلاً، فهو نظرتها إلى الشِّعر والرواية والقصَّة القصيرة والمقالة في تلك القارَّة كشيء مرتبط أساساً بالتاريخ؛ وهذا ما كانت الحال عليه في أوروبا، ولا سيَّما في القرن التاسع عشر. لقد سمحت هذه النظرة لشتراوسفيلد بالإشارة ليس إلى الكتب الأدبيَّة الأكثر إبداعاً وأصالةً فحسب، بل إلى الخرافات الصغيرة والفكاهات الشخصيَّة كذلك، مقدِّمةً إيَّاها كشهادات خاصَّة على العنف الذي يجتاح تلك القارَّة.

العمل مكتوب بلغة سلسةٍ للغاية، وعلى الرَّغم من حجمه الكبير (ما يقارب 600 صفحة)، فإنَّه يُقرأ بتسلية وانجذاب، ولا سيَّما أنَّه زاخر بالدعابات والروايات الشخصيَّة التي شهدتها شتراوسفيلد نفسها مع كبار كتَّاب تلك القارَّة: ستروي لنا، مثلاً، كيف بحث خوان رولفو معها عن ولَّاعة فاخرة فقدها شخص ما ولم يكن في حاجة إليها، لكنَّه بحث عنها كما لو أنَّه يبحث عن صفة مناسبة لصفات الصمت في شخصيَّة روايته "بيدرو بارمو"؛ كذلك ستروي لنا كيف أخبرها خوان كارلوس أونيتي، أحد فحول "البوم الأدبيّ"، أنَّ الجوَّ الخانق في رواية "البئر" مستمدٌّ من حبسه في سجن الأوروغواي، حيث مُنع من التدخين. 

كذلك ستسرد لنا كيف استمعت بدهشة وإعجاب إلى ماريو بارغس يوسا، في الأدغال البيروفيَّة، وهو يقرأ "النشيد الشامل" لنيرودا؛ وكيف أقنعت أكتافيو باث بحذف بضع فقرات من خطابه الذي هاجم فيه انجراف الثورة النيكاراغويَّة. كما أنَّها لن تتردَّد في سرد حادثة تهدئتها لخوليو كورتاثر من الهذيان الذي عانى منه عندما اعتقد أنَّ ثمَّة تعويذة ضدَّ روايته "الحجلة" في ألمانيا. كلُّ هذا تورده شتراوسفيلد في كتابها بطريقة دقيقة وبتفاصيل تجعل قراءة الكتاب سلسة ومرحة في آن معاً.

إنَّنا أمام كتابٍ استثنائيٍّ يقرأ أعمال ما يقارب المئتين والخمسين كاتباً، جميعهم يُظهرون الثروة والإرث الثقافيّ الفريد لأميركا اللاتينيَّة، التي يتداخل مصيرها الأدبيُّ مع مصيرها السياسيِّ. في خضمِّ أدب القارَّة الغنيَّة، تآمر أبطاله الأدباء ليكتب كلٌّ منهم، انطلاقاً من مكانه، عن الحكَّام المستبدِّين الذين عاصروهم، والذين حكموا بلدانهم. بعضهم وفى بالعهد، لكنَّ واحداً منهم أسهم في تفجير هذه الاستعارة الرائعة، استعارة الفراشات الصُّفر، التي أخذتها الناقدة الألمانيَّة من رواية "مئة عام من العزلة" لغابرييل غارثيا ماركيز واختارتها لتكون عنواناً لهذا الكتاب، لتروي من خلاله المسيرة الأدبيَّة عبر التاريخ لأدب أميركا اللاتينيَّة بعيداً عن النظرة الأوروبيَّة المركزيَّة.

* كاتب ومترجم مقيم في إسبانيا

متعلقات