مضى أكثر من شهرين على التوتر العسكري الحاصل في محافظة درعا في الجنوب السوري، وبينما يصر النظام السوري على بسط كامل سلطته الأمنية والعسكرية، ترفض لجان التفاوض الممثلة عن الأهالي ذلك، وتتمسك بمطالبها المختصرة بعدم العودة إلى ما قبل عام 2011.
وتصنف درعا ضمن ما يسمى بـ"مناطق التسويات"، إلى جانب مناطق أخرى كالريف الشمالي لمحافظة حمص وسط البلاد، الذي يعيش اليوم مشهدا مشابها، بعد تهديدات أطلقها مسؤولون أمنيون في النظام السوري أثناء اجتماعهم مع وجهاء مدينة تلبيسة، بحسب ما يقول مصدر إعلامي في تصريحات لموقع "الحرة".
ويوضح المصدر، الذي فضل عدم ذكر اسمه لاعتبارات أمنية، أن اللواء حسام لوقا، مدير إدارة المخابرات العامة في سوريا، عقد اجتماعا مع 3 شخصيات من وجهاء مدينة تلبيسة، الأسبوع الماضي وخيرّهم بين 3 حلول: الأول تسليم السلاح وأشخاص مطلوبين أمنيا يبلغ عددهم 950 شخصا، والثاني إطلاق عملية عسكرية اتجاه مناطقهم.
أما الخيار الثالث فيقضي بتهجير من يرفض ذلك إلى مناطق الشمال السوري الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة السورية و"هيئة تحرير الشام".
"هجمات مسلحة وانتشار"
وجاء الاجتماع الأول، من نوعه منذ أشهر، بعد سلسلة هجمات مسلحة نفذها "مجهولون"، استهدفت مواقع عسكرية لقوات النظام السوري في مناطق ريف محافظة حمص، مما أسفر عن مقتل عناصر في "الأمن السياسي" و"الأمن العسكري".
وقبل 3 أعوام كان الريف الشمالي لحمص قد دخل ضمن اتفاق "التسوية" الذي رعته موسكو، وقضى حينها بإبعاد المئات من المطلوبين للنظام السوري مع عائلاتهم إلى الشمال السوري، ومن ثم إعادة انتشار قوات النظام السوري في عدد من المواقع، خاصة المحيطة بأوتوستراد حمص- حماة.
ويضيف المصدر الإعلامي، الذي تحدث لموقع "الحرة"، أن غالبية المطلوبين في المنطقة، والمحددة أسمائهم من جانب النظام السوري، يتبعون لتشكيل "جيش التوحيد"، الذي رفض المغادرة إلى الشمال في مطلع 2018، وانضوى جزء من مقاتليه ضمن تشكيلات "الفيلق الخامس" المدعوم روسيا.
واستقدمت قوات النظام السوري، في الأيام الماضية تعزيزات عسكرية إلى محيط تلبيسة، وذلك عقب انتهاء الاجتماع الأمني بين اللواء حسام لوقا ووجهاء المنطقة، بحسب المصدر الذي يشير إلى أن جزء منها تمركز في كتيبة المهام الخاصة جنوبي المدينة، وجزء آخر في كتيبة الدفاع الجوي وقرية جبورين غربها.
"بين الشمال والجنوب"
ما يحصل في درعا جنوبا وريف حمص شمالا يأتي بعد أشهر من فوز بشار الأسد في ولاية رئاسية جديدة في تصويت "محسوم النتائج" بحسب معارضين، وعلى الرغم من تشابه الظروف العامة بين المنطقتين إلا أن باحثين سوريين أشاروا إلى "اختلاف نسبي"، تفرضه الجغرافيا من جهة والأهداف من جهة أخرى.
الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، نوار شعبان، يرى أن النظام السوري لم يكن راضيا عن "سيناريو درعا" منذ الاتفاق الأول، في عام 2018، حيث اعتبره أنه "غير عادل" على خلاف الترتيبات الروسية.
ويقول شعبان في حديث لموقع "الحرة" إن عدم انضباط الوضع الأمني في الجنوب السوري حفّز إيران والنظام السوري على تصعيد الأوضاع لتصل إلى ما هي عليه الآن، مما أجبر الروس على الجلوس لـ"السماع للطرف المتشدد من نظام الأسد ومطالبه".
"روسيا تريد إعادة اتفاق 2018 في درعا، لكن النظام يرفض ذلك، أما في ريف حمص الشمالي فهناك إشكالية انتقامية"، وفق شعبان الذي يضيف: "المناطق المحيطة بريف حمص الشمالي تكنّ نوعا من الحقد وضرورة الانتقام".
وبحسب الباحث السوري: "تجري ضغوط في الوقت الحالي من قبل الحاضنة الشعبية التي تلعب دورا في الواقع الأمني بريف حمص، من أجل سحب كافة السلطات الأمنية والعسكرية التي منحت لتشكيلات معينة في الفترة الماضية"، في إشارة منه إلى "جيش التوحيد".
ويضيف شعبان: "بالمحصلة الانقلاب على مناطق المصالحات والتسويات كان متوقعا، لكنه يختلف من منطقة إلى أخرى. كل ما هنالك أن النظام يريد تعزيز سلطته في ريف حمص ودرعا على حساب التشكيلات التي بقيت ولعبت دورا جزئيا مع روسيا".
"المهلة انتهت"
وبموازاة ما يحدث على الأرض، تلعب روسيا حليف النظام السوري، دورا محوريا في التطورات التي تشهدها درعا على الخصوص، وبشكل غير مباشر في ريف حمص الشمالي.
وخلال الأسابيع الماضية، عقد مسؤولون روس عدة جولات تفاوض في درعا مع ممثلي اللجان المركزية، ويقول الناطق باسم تلك اللجان، المحامي عدنان المسالمة: "لا يوجد أي تطور على صعيد المفاوضات حتى الآن".
ويضيف في حديث لموقع "الحرة": "استمرار التصعيد والتوتر سببه العراقيل التي يضعها نظام الأسد ومن خلفه إيران".
من جانبه يقول المصدر الإعلامي الذي يقيم في ريف حمص الشمالي: "هناك توجيهات روسية بعدم استخدام القوة المفرطة واتباع الحلول السلمية، بحسب ما أبلغني أحد القائمين على عمليات التفاوض مع النظام السوري".
المتحدث باسم "لجان المصالحة" في سوريا، عمر رحمون، المقيم في دمشق، يقول إن ما يحصل في درعا وريف حمص تعود أسبابه إلى "انتهاء المهلة" التي حددتها "الدولة السورية" لتلك المناطق.
ويضيف رحمون في حديث لموقع "الحرة": "اليوم وصلت الدولة لقناعة بأنه يجب تنظيف هذه المناطق من السلاح بشكل كامل، لتعود الحياة إلى طبيعتها ولتستطيع الدولة إطلاق عجلة الاقتصاد دون عراقيل من بقايا فلول هذه المجموعات المسلحة".
وبتقدير المتحدث باسم "لجان المصالحة": "عند الدولة السورية كل القدرة العسكرية لتنفيذ هذه المهمة، لكنها تلجأ للمفاوضات لأبعد مدى، محاولة منها لعدم إراقة الدماء".
ويتابع: "لكن على ما يبدو لا حل لدرعا إلا بالسلاح والعمل العسكري. نحن في ختام كل المحاولات التفاوضية، ولم يبق أمامنا إلا الاستسلام المطلق أو الخيار العسكري".
"مسار أمني بامتياز"
في غضون ذلك، بدا لافتا خلال الأشهر الماضية تصدّر اسم اللواء حسام لوقا في جميع جلسات التفاوض الخاصة بمناطق "التسويات"، ما يشي بأن المسار الذي يسير فيه النظام السوري "أمني بامتياز".
ويرأس لوقا المخابرات العامة في سوريا، منذ عام 2019، وينحدر من بلدة خناصر في ريف حلب الجنوبي.
وكان قد لعب دورا بارزا في السيطرة على حي الوعر بمدينة حمص في عام 2017، وذلك بموجب اتفاق رعته روسيا، قضى حينها بخروج جزء كبير من المدنيين والمقاتلين إلى الشمال السوري.
وفي سبتمبر عام 2020 كانت الولايات المتحدة الأميركية قد أدرجت اللواء لوقا على قائمة عقوباتها، إلى جانب ميلاد جديد قائد "القوات الخاصة"، وحازم يونس قرفول "حاكم مصرف سوريا المركزي" السابق.
وقبل ذلك بسنوات أدرج اسم لوقا على قائمة عقوبات دول الاتحاد الأوروبي، "بسبب مشاركته في تعذيب المتظاهرين والسكان المدنيين".
في المقابل كانت شبكات محلية تغطي أخبار السويداء قد أشارت، في يونيو الماضي إلى أن لوقا اجتمع مع عدد من مشايخ وجهاء المحافظة، واستمع لاقتراحاتهم عن حلول للوضع الأمني.
ونقلت شبكة "السويداء 24" في ذلك الوقت عن مصدر مطلع أن لوقا "تم تكليفه من القصر الجمهوري، بإجراء دراسة للملف الأمني في السويداء، قبل حوالي شهر، واقتراح حلول للمشاكل الأمنية التي تعيشها المحافظة".
نزوح أكثر من 38 ألف شخص
فرانس برس
وفي درعا، دفع التصعيد العسكري بين قوات النظام ومقاتلين معارضين أكثر من 38 ألف شخص إلى النزوح خلال شهر تقريباً، وفق ما أعلنت الأمم المتحدة الثلاثاء، فيما لا تزال المفاوضات متعثرة.
وتفاقمت الأوضاع الإنسانية سوءاً مع حصار فرضته قوات النظام على درعا البلد، أي الأحياء الجنوبية في المدينة حيث مقاتلون معارضون وافقوا على التسوية مع قوات النظام.
وأحصى مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في بيان الثلاثاء نزوح 38,600 شخص إلى مدينة درعا ومحيطها، فرّ معظمهم من درعا البلد.
ويتوزع النازحون، وفق المصدر ذاته، بين نحو 15 ألف امرأة وأكثر من 3200 رجل ومن كبار السن، إضافة الى أكثر من 20,400 طفل.
وزادت الأوضاع الإنسانية سوءاً مع استمرار مناوشات واشتباكات متقطعة وتبادل القصف، إلى جانب إحكام قوات النظام تدريجياً الخناق على درعا البلد، فيما لم تسفر الاجتماعات المتكررة عن التوصل لاتفاق في المدينة التي اندلعت منها شرارة الاحتجاجات الشعبية ضد النظام عام 2011.
وحذّرت الأمم المتحدة من وضع حرج في الأحياء التي تشهد تصعيداً عسكرياً، منبهة الى أن إمكان الوصول الى السلع والخدمات الأساسية، بما في ذلك الطعام والكهرباء بات "صعبا للغاية".
من جانبه، أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن قوات النظام تقيد دخول البضائع إلى درعا البلد، حيث يقيم نحو 40 ألف شخص "يعيشون الحصار الذي أفقد العائلات المؤونة، إضافة إلى نقص في الخدمات الطبية وانقطاع مياه الشرب والكهرباء والإنترنت".
ولم تسفر اجتماعات بين طرفي النزاع، برعاية روسية، عن التوصل إالى تسوية توقف التصعيد. وأوردت صحيفة "الوطن" القريبة من دمشق، نقلاً عن مصدر عسكري الثلاثاء، أن المسلحين "لا يستجيبون لجهود التسوية التي تبذلها الدولة لترسيخ الأمن والاستقرار في عموم المحافظة".
ومحافظة درعا المنطقة الوحيدة التي لم يخرج منها كل مقاتلي الفصائل المعارضة بعد استعادة قوات النظام السيطرة عليها في يوليو 2018، إذ وضع اتفاق تسوية رعته موسكو حدا للعمليات العسكرية، وأبقى وجود مقاتلين معارضين احتفظوا بأسلحة خفيفة، فيما لم تنتشر قوات النظام في كل أنحاء المحافظة.
وتعد المواجهات التي اندلعت في نهاية يوليو في مناطق متفرقة من المحافظة بينها مدينة درعا "الأعنف" خلال ثلاث سنوات، وفق المرصد.