'المغفلون' .. رسالة إلى سارق الحبيبة
الأحد 31 ديسمبر 2017 الساعة 01:32
الأحرار نت / بقلم: محمد الحمامصي:
"المغفلون" الرواية التي حصلت على الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية في عام 2001، وترجمها لطفي السيد منصور، وهي أول رواية تترجم للعربية للكاتب الفرنسي إريك نويوف. وهي رسالة طويلة تقع في 208 صفحات في النسخة الفرنسية والتي يوجهها الراوي الثلاثيني الذي يعمل في وكالة للدعاية والإعلان، إلى الرجل الذي سرق صديقته. إنه يعيش قصة حب رائعة مع "مود"، السيدة المثيرة والمتقلبة وهو ما يحبه "إيريك نويوف".

أثناء قضاء عطلة في جزيرة قبالة روما، يلتقي الحبيبان؛ سبعيني ساحر برفقة ابنة أخته. لأول مرة، لم يوضح لهما هويته الحقيقية ولكن فيما بعد كشف عن نفسه إنه ليس سوى "سيباستيان بروكنجر"، الكاتب الأميركي الأسطوري المنسحب من الحياة العامة، الهارب من العالم، المنزوي في غابة "فيرمونت" حيث يعيش حياة وديعة مما يثير فضول الساحة الأدبية بأكملها. وباختصار، "سيباستيان" هو النسخة الكاملة من الكاتب الأميركي ج. د. سالينجر، مؤلف "الحارس في حقل الشوفان".

يشير المترجم في مقدمته للرواية الصادرة عن دار العربي للنشر إلى أن ميلان كونديرا في أحد حواراته عدد أشكال الرواية في القرن الثامن عشر، وقال عن أحد أنواعها وهو رواية الرسائل: "رواية الرسائل. لقد أتاحت هذه البنية أيضاً حرية شكلية كبيرة للغاية، لأن الرسالة، وبشكل طبيعي جداً، يمكنها استيعاب كل شيء: تأملات، اعترافات، ذكريات، تحليلات سياسية، أدبية...إلخ". وأعتقد من أجل هذه الحرية ومن أجل استيعاب موجة غضب الرواي الذي سُرقت منه حبيبته وغضب ذاكرته التي قد تبدو مرتبكة كان قد اختار إريك نويوف شكل الرسالة لروايته هذه".

ويضيف أن الروائي ذو الخبرة لديه دوافع خفية. لقد استسلم لسحر الشابة "مود" ويعتزم إغراءها بكل ما لديه من هيبة كبيرة وملغزة، وسرقتها من البطل الذي هو نصف عمره، على الرغم من الجانب الشبقي العجوز والكحولي.

الراوي، المخدوع الرائع، ممزق بين المرارة والإعجاب والغيرة والعاطفة تجاه هذا الكاتب العظيم ولذلك نراه يكيل له السباب ويُحقر منه، والاستياء والحماس تجاه أعمال هذا الروائي الأميركي لذا يناديه بضمير الجمع المخاطب الذي يعبر عن الاحترام. يتساءل كيف يقبل أن تقع امرأته بجنون في حب هذا الشيخ العجوز، معبوده الأدبي. لكن على ما أظن هذه الحكاية البسيطة القديمة الجديدة ليست سوى تكأة استخدمها المؤلف ليطرح وجهة نظره وتساؤلاته حول العالم. فمثلا يقول: "أي عصر يتآمر علينا؟".

بالفعل عصر الصورة السريعة لا التأمل، عصر التسلع لا الإنسانية إنه مجتمع الفرجة والاستهلاك. لقد أصبحت الحياة بمثابة شريط لا نمثل فيه سوى لقطة مما لا يمكننا ولا يمكن الآخرين من التأمل والفهم. "سينتهي بها الأمر أن تترككم أنتم أيضًا، من أجل أن تتزوج طبيب أسنان ونجد نفسينا نحن الاثنين كمغفلين". إنه العالم الذي جعلنا جميعا كما يرى الراوي مغفلين.

الرواية رواية قصيرة كتبت برشاقة وتناغم. يتخلل هذه الرواية أقول مأثورة فاتنة ومحبطة، كما تختلط فيها المشاعر واللامبالاة. نعثر فيها على شخصيات من وقت آخر، عصر آخر، عزيزة على "إيريك نويوف".

ويرى المترجم أن الكتابة سريعة، متشنجة، عصبية، حديثة اللهجة وتعبر عن مشاعر مختلطة، ولذا نجد الكاتب قد عرض حكايته في شكل الرسالة حتى تتاح له الحرية التي قال عنها كونديرا فتأتي الأحداث في غير ترتيبها ولكن حسب صعود وهبوط الحالة النفسية للراوي وحسب حالة ذاكرته أو حسب ما يتوارد إليها فهو يحكي مأساة حب كان.

إنه الكولاج أو لعبة البازل التي يحكي من خلالها قصته ويرتب ذاكرته ويتطهر من هذه المأساة الغرامية. لم يعد العالم عالمًا متصلًا متواصلًا بل صار عالما متقطعا عالما سينيمائيا تتجاور فيه اللقطات، عالمًا مليء بالفترينات المتنوعة عالم الاستهلاك والفرجة. العالم الذي لم يعد يستطيع الإنسان أن يحتفظ فيه بحبيبته كصديقة. ومن أجل هذا العالم الاستهلاكي نجح الكاتب في اختيار وظائف شخصياته؛ الحبيب الذي يعمل في الدعاية والإعلان تلك المهنة التي تعرض كل شيء وتبيع كل شيء – حتى الشيء وضده - وتقنعك بأن تشتري ما تحتاجه وما لا تحتاجه. المهم أن تبيع. ثم الحبيبة التي سُرقت منه تعمل بالعقارات وهذا المجال أيضًا للبيع والشراء، خاصة البيع حتى لو لم يكن العقار/السلعة بها ما يجعلك تشتريها فهناك ثديا "مود" يروجان لها ويقنعانك بها. ولص الحبيبة هذا الكاتب الأميركي الغني الذي استطاع أن يبهر مود بماله وممتلكاته وهالته الملغزة.

هو أيضاً يستلهم مهنة البيع أو التسويق حتى يغري مود بشراء عجوز سبعيني وترك شاب ثلاثيني يستطيع أن يشبع رغباتها الإنسانية والأنثوية. إنها السوق الذي صار فيه الإنسان هو البائع لنفسه. إنه الإنسان الذي نسي أن يعرف ما لون عيني حبيبته ولم يكتشف إنه يحبها كل هذا الحب إلا بعد فقدها.

الرواية رغم صغر حجمها والتشويق واللغة اللاهثة التي استخدمها الكاتب إلا إنها غنية بالرؤى العميقة التي ربما تتوه في وسط الجمل والكلمات البسيطة والعادية. وربما في حالة التشوش التي لدى الراوي وحاول أن ينقلها لنا في هذا الإطار.

يذكر أن "إريك نويوف" ولد في عام 1956. بدأ العمل في الصحافة للمرة الأولى في عام 1982 في "لو كوتيديان دي باريس". وهو ينتمي للتيار الأدبي الذي أطلق عليه بـ "néo-hussard"- والذي يتميز بالأسلوب المقتضب، اللاذع والمرن، بعد حركة الـ "هاساردز" منذ الخمسينيات. حصل على جائزة "روجر نيمير" عام 1990، وحصل على جوائز مثل "دي دو ماجو" وجائزة "إنتيرالي" والجائزة الكبرى لـ "رومان دي أكاديمي فرانسيس". وعمل كصحفي وناقد أفلام لـ "فرانس إنتر"، و"كانال + سينما" ومجلة "مدام فيجارو". شارك في كتابة سيناريو فيلم "سافاج سولز" 2001 من إخراج راؤول رويز.

• مقتطفات من عالم "المغفلون"

كانت "مود" قد نامت منذ فترة طويلة. أغلقتُ التليفزيون بعد مشاهدة الأخبار على قناة LCI. فيما بعد، استيقظت، ودون التفكير في ذلك، بسبب "مود". كانت تبكي في السرير. لم يكن لديَّ أدنى فكرة كم الساعة وقتئذٍ. كانت الحجرة غارقة في الظلام. أشعلت "مود" سيجارة. من خلال وميض ولَّاعتها، رأيت الدموع تغمر وجهها.

- لماذا تبكين؟

- أبكي لأنني نمت. أبكي لأنني لم أستطع النوم. أبكي لأنني في عشرين عامًا لم أرَ الحياة هكذا. أبكي لأنني لم يعد عمري عشرين عامًا. أبكي لأنني لا أعلم هل يجب عليَّ الندم على ذلك.

استنشقتْ، سحبتْ نفسًا من سيجارتها، حيث الطرف الأحمر المشتعل كان وميضه الضوء الوحيد في الحجرة.

- أبكي لأن الشتاء استمرَّ طويلًا. أبكي لأنك لم تصحبني في عيد الميلاد إلى "لشبونة". أبكي لأن أمي طُلِّقت وأنا في العاشرة من عمري.

بيدها اليسرى، أمسكتْ مرفقها الأيمن. نهضت لتُطفئ سيجارتها تحت حنفية الحمَّام.

- أبكي لأنه ليست هناك سيارات تاكسي في "محطة الشمال" ولأن المطر ينهمر. عندما تفكِّر في ذلك، تجد دائمًا مبررًا للبكاء. وأنت، أليس لديك رغبة في البكاء؟

لم أعرف بمَ أردُّ. عادت من الحمَّام وتمدَّدت في مكانها على السرير، على الجانب الأيسر. سرعان ما عاد الصمت. يُحدث تنفُّسُها صفيرًا خفيفًا للغاية. تحصَّلت على كل آلام العالم عند معاودتي النوم.

كنت أودُّ ألا أمرَّ بهذه القصة لأحكيها. كنت أودُّ أن أتمكَّن من التظاهر كما لو أن شيئًا لم يحدث. كل هذا كان مفاجئًا للغاية، غير متوقَّع تمامًا. نسبيًّا، من السهل أن نغفر. لا يجب أن تكون جريمتك هي الثقة التي تمنحها لناس لا يستحقونها. ليس بإمكاني محو كل هذه السنوات مع "مود" بضربة واحدة. أعتقد أن ثمَّة حكايات لا تنتهي أبدًا. حكايتنا هي حكاية شخصين لم ينجحا في الحُبِّ، وسيندمان على ذلك طوال الحياة.

كنت أودُّ أن تُعلِّمني "مود" النقيضين: العاطفة، وعدم الاعتياد. في كلتا الحالتين، فشلت. لقد غرقت تمامًا في اليأس. ماذا تريد أن أقول لك؟ في المجمل، لقد شكَّلت جزءًا من جماعة السفلة الذين أفسدوا حياتي. كل الكتَّاب الذين أُعجبت بهم كانوا كذلك أيضًا.

***

كنت لا تزال ترتدي البيجامة، على الرغم من أن الوقت كان قُرب الظهيرة. ترتدي بيجامة زرقاء وبيضاء مُقلَّمة مصنوعة من القطن. لم أستطع منع نفسي من التفكير أن الكُتَّاب لا ينبغي أن يكونوا بهذا المظهر المضحك. على أيِّ حال، نحن لا نُقدِّمهم بمثل هذه الطريقة في الدَّعاية. لكنك لا تهتم بكل تأكيد. لستُ أنا مَن ينتقدك.

كانت غرفتنا في الطابق المسروق المنخفض بين الطابق الأرضي والأوَّل. في المساء، ضمَّتني "مود"، وأنا واقف أمام السريرين المنفصلين.

- ستكون دائمًا أخي الكبير.

في السرير، اتَّخذت الجانب الأيمن. في باريس، كان دائمًا الأيسر. وضعت ساعة يدها على "الكومودينو". كان ذلك غريبًا، لم يكن هناك أيُّ كتاب في الحجرة. نمنا بسرعة في الحال. قرأت "مود" قليلًا. أما أنا، فقد غرقت في نوم بلا أحلام. لقد بدأت أُحبُّ الصمت الذي يسيطر على بيتك. في الصباح، ثمَّة شيءٌ ما سحري، لا واقعي، في هذا الصمت، كما لو كان هناك شيءٌ ما قمت به بنفسك لرفاهية مدعوِّيك.

كانت الأيام من قبل سريعة، آمنة ومبهجة. وإليك كيف حدث هذا. في معظم الوقت، كنت أستيقظ أولًا. أستحمُّ دون أن أُحدث ضجَّة كبيرة قدر الإمكان. أحيانًا، قد يظل النور مُضاءً في الحجرة الخشبية التي جعلتها مكتبًا. على العشب، كان الطاووس يطوي ريشه. تقدَّمت عبر العشب المبلول بالندى. كان المشهد يتحرَّك. ثمَّة بركة مياه. ثمَّة قارب مربوط بجسر عائم. عبر النافذة، كنت أراقبك. كنت نائمًا على الآلة الكاتبة، تضع رأسك بين ذراعيك. لم أجرؤ على إزعاجك. كنت في عمر والدي، بما يقرب من عامين تقريبًا. قمت بعمل حسابات ذهنية مثل العلماء. إلى أن توصَّلت ذلك اليوم، إن لم أكن مخطئًا، إلى أن بطلك المشهور، الأستاذ "وارن بيرد"، الذي يتساءل كيف تحيا الدِّببة في الشتاء في حديقة حيوان "سنترال بارك"، يبلغ ثلاثةً وستين عامًا. ***

ذات ليلة، على الرغم من ذلك، مارسنا الحب، في حالة مملَّة أشبه بالنعاس. لم نكن نتحرَّك. كنت لا أزال بداخلها. التصقت بصدرها، ثم شَرَعتْ في البكاء بدموع حارة. قلت لها: "هُشش، هُشش" فيما كنت أداعب شعرها الذي كان ملتصقًا بجبهتها بسبب العرق. هدأت، وأنهت انتحابها. انتهى بها الأمر إلى النوم. انقلبت على جانبي، هنا، حيث أرقام الراديو المنبِّه تبثُّ وميضها الأزرق الصغير، مع عضوي الرطب والذابل المستقر على البطن. أدركت حينئذٍ أنني فقدتها. لم تكن تبكي من قبل.

متعلقات