كما يشير المؤلف د. عبدالمحسن صالح إلى أنه، وكما يحسب عمر الإنسان بالسنوات أو عشرات السنوات، فإن المراحل التي تمر بها الدول والمجتمعات تقاس بآلاف السنين، وفي كل مرحلة من هذه المراحل يكتسب أفرادها مفاهيم جديدة وخبرات عديدة، وهي المفاهيم والخبرات التي تتراكم حتى تقع بين أيدينا في النهاية على هيئة تراث بشري تمتد جذوره في أعماق الزمن.
لكن المؤلف يؤكد في نفسه الوقت على أن الدارس لنشأة المجتمعات البشرية وأنماط سلوكها، وضروب أفكارها سوف يضع يديه على حصيلة هائلة من الأفكار والتقاليد المثيرة التي نبعت في المقام الأول من التفاعل بين الإنسان والبيئة التي يعيش فيها، حيث رأى الإنسان القديم من الظواهر الطبيعية أمورا حيرته أشد حيرة، فأثارت مخاوفه وشحذت خياله، ومن ثم فقد بدأ في استنباط تفسيرات تتلاءم وإداركه البدائي أو البسيط، ومن هذه التفسيرات الخاطئة للظواهر الكاذبة نبتت الخرافات وترعرعت الخزعبلات وانتشرت الأساطير في كل المجتمعات.
• العلاج الروحي
ومن بين هذه الخرافات التي تأثر بها الإنسان على مدار عصور قديمة، فكرة العلاج الروحي، وهي مزاعم تعود بالإنسان إلى عصور الشعوذة والخرافات والدجل، وحيث تروج هذه الفكرة لطرق علاج ترفضها كل الأوساط العلمية رفضا تاما، ولكن مع ذلك فلا يزال بين الناس من يؤمن بوجود طرق فاعلة للعلاج الروحي حتى في المجتمعات المتقدمة في الغرب، وحيث لا تخلو هذه المجتمعات من مؤسسات وجميعات يدور كل نشاطها حول ما يسمى بالعلاج الروحي، ومحاولة إثبات أي أساس علمي أو واقعي لهذه الفكرة.
ويرتبط العلاج الروحي بخرافة أخرى، وفقا لتعبير المؤلف، وهي الجراحة الروحية، والمدهش أن هذه الفكرة الغريبة أصبح لها من يعلن عن نفسه أنه خبير بها، وحتى في دولة متقدمة مثل الولايات المتحدة الأميركية، ودول أخرى في أوروبا وأميركا اللاتينية، فقد ظهر فيها أشخاص يعلنون عن أنفسهم بأنهم "جراحون روحيون" يحصلون على تصريح بالعمل والإعلان عن نشاطهم الغريب، كما أن محترفي هذه المهنة الغريبة، الجراحة الروحية، حصلوا على تأهيلهم العلمي من الفليبين، أصل هذه المهنة الغريبة، والتي أصبح لها مشاهير في هذا النوع الغريب من الجراحة والذي تجري وراءهم وسائل الإعلام لتغطي ما يزعمون أنها نجاحات حققوها في مجال الجراحة الروحية.
ويشير المؤلف إلى ما ينتشر في البلدان العربية من طرق للعلاج بالخرافات، مثل ما يعتقد كثير من الشعوب العربية فيه من إمكانية استخدام تعويذة للعلاج عن طريق طرد العين الشريرة لشاب مصاب بالهزال مثلا، وهو مرض قد يعني أن المرض العضوي الحقيقي الذي يعاني منه مثل هذا الشاب هو فقر الدم، لكن بدلا من الذهاب لطبيب لعلاج هذا الشاب بالعلاج العلمي المعروف لحالات الهزال، فإن أسرته تذهب به إلى شيخ أو (سيدنا) الذي يكتب له تعويذة لعلاجه.
ففي معظم البلدان العربية، تلجأ هذه الشعوب إلى الشيخ، أو الولي، أو العارف بالله (حيا كان أو ميتاً) أو (سيدنا)، لاعتقادهم في كراماته واعترافا ببركاته التي تناسب من بين يديه وهو يتمتم بأذكار دينية، وقد يطلق البخور، فيشيع حوله جوا من الطمأنينة والهدوء، وقد يكون لهذه الطقوس تأثير نفسي على الحالة المعنوية للمريض خلال وجوده في جلسة الشيخ أو الولي.
ووفقا لهذه الطرق من العلاج بالخرافة هو وجود ثقة مطلقة بين المريض وبين المعالج، والاعتقاد الراسخ من جانب المريض بأن الشيخ أو الولي لا يكذب أبدا وأن لديه قوة روحانية واتصال مباشر مع السماء، وهو ما يمكن معه تفسير حالة الرضا النفسي التي تنتاب المريض، ويشعر معه بالراحة وهو ما يفسر فورا بأنه تأثير الرقية أو التعويذة التي كتبها له الشيخ أو الولي المعالج ، ولأن الطب الخرافي يقوم في معظم على تعاويذ وأحجبة، أو طقوس مثل وضع يد الشيخ المعالج على موضع الجزء المريض من الشخص الذي يخضع للعلاج بهذه الطريقة مع ذكر تمتمات ودعوات قد تكون بكلمات غامضة أو غير مفهومة، فإن مثل هذه الطريقة لا تحقق نجاحا أبدا في حالات المرض العضوي، فلا تنجح في علاج السرطان ولا تفيد في تليف الكبد ولا تقدم ولا تؤخر في علاج شلل الأطفال، وإن كان قد يظهر لها تأثير نفسي مؤقت في علاج بعض الأعراض النفسية عن طريق الإحياء بين الشيخ المعالج وبين المريض وليس بسبب فاعلية مثل هذا النوع من العلاج الخرافي.
• العلاج بالخرافة
إن معظم المعتقدات التي تؤسس للعلاج بالخرافة تعود إلى الأفكار التي راودت الإنسان البدائي قبل آلاف السنين، وهى المعتقدات التي تزعم أن ما يصيب الإنسان من أمراض، ومن أضرار قد تكون بسبب العين الحاسدة أو الأرواح الشريرة، أو مس من الجان أو سحر سفلي، أو حتى انتقام من الآلهة بسبب ذنوب وأعمال ظالمة، أو نتيجة اختلال في طالع النجوم أو عدم توافق في أفلاج البروج والنجوم، أو أي قوة خفية، والغريب أن مثل هذه الاعتقادات لا تقتصر فقط على الأشخاص من ذوي الثقافة المحدودة في المجتمعات غير المتقدمة مثل البلدان العربية، بل تشمل أيضا أشخاصا على درجة كبيرة من المعرفة والحاصلين على أرقى الشهادات العلمية في بلدان غربية متقدمة.
يشار إلى أن كتاب "الإنسان الحائر بين العلم والخرافة" للدكتور عبد المحسن صالح، صدر في طبعة جديدة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويقع في نحو 240 صفحة من القطع الكبير. (خدمة وكالة الصحافة العربية)