ويرى ضمن حفرياته في النظام الرمزي أن المعاني الثقافية كامنة في ذلك النظام وأنها لا تنتسب الى العالم الخارجي، ومن إطروحاته الأخرى التي شكلت أساسا في الإستدلال البنيوي ما يعرف بــ (الوهم المزدوج) والذي فصل بموجب هذا المفهوم العلاقة بين الوعي واللاوعي، ورأى أن الوسيط بيننا وبين العالم الخارجي هو البيئة اللاتحتية للاوعي والتي خلقت لنا نظاما مزدوجا للواقع والذاتية.
وقد مضى شتراوس في الإسهاب عن تلك الأفكار وغيرها في (المدارات الحزينة – الأبنية الأولية - الفكر الوحشي) وتشديده على أفكاره فيما عرف "الظاهرات الإجتماعية ضمن سياقها البنيوي" ملامسا بعض الأوجه في نظريات دوركهايم الإجتماعية، ولكي يكمل لأقرانه ممن غادر الوجودية أو الظاهراتية والتحق بالركب البنيوي يشير ليفي شتراوس في الإنثروبولوجيا البنوية، إلى أن الدارس البنيوي يهتم بما داخل النص وليس له علاقة بالمؤثرات الخارجية كون البنيوية تعني (بأنها مجموعة من العلاقات الثابتة بين عناصر متغيرة).
إن التذكير بأقطاب الفكر البنيوي هو بمثابة الوقوف على من هو أكثر إسهاما وتأثيرا في هذا الفكر دون إغفال للجهد المتميز لخصوصية إطروحات بارت ودريدا وآخرون، وكذا الشكلاني دودروف الذي نقل منتج الشكلانيين الى اللغة الفرنسية.
نود القول ومن خلال التركيز على مؤسس البنائية الفرنسية العالم اللغوي دي سوسير والذي إشتغلَ على مفهومه الخاص بالبنية مقابل ما قدمه ليفي شتراوس من أن أي ظاهرة ثقافية في أي مجتمع ما هي إلا نتاج للغة ذلك المجتمع، وقد وضع منهجه البنيوي للتقريب بين دراسة التاريخ ونظرية المعرفة تحت مرجعية تعريفه للبنيوية (عن العلاقات الثابتة بين عناصر متغيرة).
ولا شك - ونظرا لتعدد الرواد وكثرة الآراء المطروحة وتأثيرات الإنتساب لهذا الحقل أو ذاك - فقد كانت هناك خلافات حادة بين هذه الأطراف، منها ما يتعلق بالكلية والتحول والتنظيم ضمن اتجاهات جون بياجيه ومناصرية، وكذا جان لاكان عن الوثبات الفكرية؛ ناهيك عما أثره كل من التوسير وبلوم وبول فاليري وأسماء أخرى رغم أنها لم تكن في صميم البنيوية، لكن آراءهم عمقت الخلاف في وجهات النظر حول قضايا مهمة حين طرحوا للنقاش بعض القضايا الأدبية، ومنها الأدب هل هو نظام أم بنية مستقلة، وهل أبنيته تمثل نظاما شاملا، وما هي مهمة الناقد البنيوي، وقضايا غياب المؤلف أو ما عرف على نطاق أوسع بــ "موت المؤلف" وأدواته التي أصبحت مفاهيم مقدسة ( التزامن - التعاقب – الآلية - الجسد اللغوي).
إن جاكوبسن مثلا يقف في طليعة الذين اتسموا بالمغامرة العلمية، وهو المرجع والدلالة للكثير من مفكري أوروبا وأميركا، وآراؤه التي كان يطرحها في "حلقات براغ" كانت القاعدة الأساسية التي نشأت عليها المدرسة الأسلوبية البنائية، إضافة لدعمه للمنهج البنيوي من خلال دراساته عن الرمز وبناء النص الأدبي ووظيفة الشعر وعناصر الخطاب في النص.
من جانب آخر فإن تحولا مهما طرأ على علم اللغة، فبدلا من الإهتمام بطبيعة اللغة فإن جومسكي دعا الى الإهتمام بالنظرية اللغوية، وقام بتطوير أفكاره في هذا الخصوص، وخلص في النهاية الى نظريته اللغوية عن "الصياغة الإستدلالية".
وعن ليفي شتراوس يشير سايمون كلارك في كتابه "نقد ليفي شتراوس والحركة البنيوية" بأن بنيوية شتراوس فلسفة ونظرية ومنهجاً تقدم نفسها للعلوم الإنسانية ليس على أساس الإدعاء الفلسفي كونها حققت إستبصارا متميزا في طبيعة الإنسان، ولكن بشكل أكثر جوهرية على أساس منجزاتها العلنية.
وفي اتجاهات النص كخطاب يفتتح بول ريكور معرفته بتسمية النص بأنه: "كل خطاب يتم تثبيته بواسطة الكتابة، والكتابة تأخذ صيرورتها وبناءها من نمطية اللغة المستخدمة واللغة المستخدمة يبلورها الأسلوب المستخدم، والتباين في الأسلوبية يعني: المغايرة في إيصال النص بين خطاب وآخر ليحل المتلقي بدلا من الخطاب، ويأخذ بدور الراوي للسرد النّصي.
وضمن التقارب والإختلاف بين ريكور ودي سوسير، يرى سوسير: أن اللغة تحقق بحدث مرتبط بخطاب ليتم كشف إنتاجية ذلك الخطاب الخاص، ولذلك فهي باعتقادنا تقدم عروضها من خلال بُنى سياقاتها التتابعية التي تربط بعضها مع البعض لتأسيس قاعدة للتفسير تكون مرتكزا كقاعدة للفهم، تستند في ذلك على قدرات المتلقي في صياغة خطاب جديد أثناء استرساله بالقراءة وفق خصائصه التي تُنظم في لحظة معينة.
ولا شك بالعلاقة القائمة ما بين التفسير والتأويل فمن خلال منظومة الفهم يستطيع المتلقي خلق منظومته التأويلية أو التفسيرية ويبدو أن هذه إحدى مشكلات النص وصعوبة اليقين من إدراك الوسط الظرفي للخطاب ومنها سلطته ولذته ورسوخه والعمليات الإستبدالية داخله، أي قدراته التكيفية مع العالم المُخاطب الذي سيصبح بعد الكتابة عالما خارج خطابه بعد أن يحل النص محل الكلام.
إن كل ما يجري هو شكل من أشكال التوسع في إعادة الجزئية للفكرة. هذه الجزئية التي أحيانا تُفتقد أثناء الإسترسال في نقل الكلام إلى اللغة في الوقت الذي يرى الكاتب النص قبل الكتابة، يرى رموزه وإشاراته ومعرجات حروفه ومميزات كل حد فيه فأحيانا تكون الفكرة صورة، وأحيانا تصوراً، وأحيانا جاهزة ومتاحة، وأحيانا منضوية تحت سطوة عرض رمزي أو تحت سطوة ألاعيب العقل، والنص يقوم على سمات بنيوية وعلى مفاهيم مرجعية والقدرة على إنجاز هذه المفاهيم.
ومقابل ذلك لا بد من وجود ثقل فلسفي يقف حائلا دون شغل النزعات العشوائية حيزا في مساحة النص، إذ أن عملية التفسير أو الفهم لا بد أن تتأثر أو قد تستعير الموروثات أو المعارف أو المؤثرات النفسية بحسب تأثيرها في تكوين المرء وعمق ثقافته وقبوله للجديد من النتاج الفكري والأدبي.
وعندما نتحدث عن البنيوية وبأنها علاقات ثابتة بين عناصر مختلفة لا بد أن نمر بمفهومها الإصطلاحي، فالبنيوية إصطلاحاً تعني توجيه الإهتمام نحو التصميم الداخلي للأعمال الأدبية والذي يشمل هذا التصميم الرموز والدلالات شريطة أن يتبع كل عنصر عنصرا آخر.
ومن خلال فهم هذا التعريف الإصطلاحي يمكننا التوصل الى أن البنيويين كانت غايتهم تتمثل في دراسة أبنية العمل الأدبي دراستها بعضها مع البعض، دراسة كيفية إدارة هذه العلاقات للوظائف الجمالية، دراسة مدى تماسك لغة الكتابة وتنظيمها المنطقي والرمزي، فالبحث هنا في داخل النص وليس في مؤثراته الخارجية وإذ كان لا بد من تصنيف النص، فلا بد أن يصنف على طابعه الموضوعي لتجاوز الخارج المرجعي (أحكام مسبقة - أيدلوجيا) ويمكن أن نجد الكثير من الأفكار التي توافق العديد من البنيويين حولها وهذا ما أشارت اليه أديث كريزويل في "عصر البنيوية" عبر مقولة لرولان بارت حين قال: إن البنيوية ليست مدرسة أو حركة أو مفردات بل نشاط يمضي الى ما وراء الفلسفة، ويتألف من سلسلة متوالية من العمليات العقلية التي تحاول إعادة بناء الموضوع لتكشف عن القواعد التي تحكم وظيفته.
وقد اقترب بارت وأخرون من أفكار سوسير وليفي شتراوس حين توافقوا على أن الدال اللغوي لا يكتب معناه إلا داخل نسق متعين من العلاقات.